التحسین والتقبیح بین العقل والشرع

"دراسة نقدية مقارنة"

علي عبد القادر مصطفى1*، آماد كاظم محمد صالح2

1 قسم الدراسات الإسلامية، فاكولتي العلوم الإنسانية، جامعة زاخو، إقليم كردستان – العراق.

2 قسم الدراسات الإسلامية، فاكولتي العلوم الإنسانية، جامعة زاخو، إقليم كردستان – العراق.

تاريخ الاستلام: 02/2024         تاريخ القبول: 05/2024        تاريخ النشر: 11/2024  https://doi.org/10.26436/hjuoz.2024.12.4.1388

الملخص:

يدور البحث حول أهمية العقل في بيان القيم الأخلاقية، فيما إذا كان في إمكانه الاضطلاع بدور في هذا الميدان، فذكر البحث الاتجاهات الفكرية الإسلامية في هذا الباب، والتي تمحورت حول اتجاهين رئيسين، قسم يحكم بأن صفتي الحسن والقبح ذاتيان في الأفعال، وفي قدرة العقل الاطلاع عليها ومعرفة حكم الله فيها قبل بعثة الأنبياء، وذهب فريق منهم إلى ترتب المؤاخذة على ذلك في العاجل والآجل قبل ورود الشرع. أما القسم الآخر فكان يؤمن بنوع من الأخلاق العواقبية التي يمكن أن تعرف عن طريق العقل بناء على المصلحة والمفسدة التي يقررها العقل، لكنها تبقى صفات إضافية اعتبارية، ولا تكتسب قيمتها ولا يترجح أحدها على الآخر إلا بعد ورود الأمر الإلهي بها. ويقف على رأس الفريق الأول المعتزلة، بينما الثاني يتصدرهم الأشاعرة. وأشهر تقسيم لمحل النزاع -وإن كان فيه نظر- ما ذكره الإمام الرازي رحمه الله، فقد ذكر تقسيمًا من ثلاثة أوجه، فما كان موافقًا للطبع والغرض وما كان مخالفًا له، والثاني ما كان صفة كمال وصفة نقص، والثالث ما استحق المدح والذم، فأجمعوا على عقلانية الأوليين واختلفوا في الثالثة، فذهب المعتزلة ومن وافقهم إلى جعلها عقلية أيضًا، وخالفهم في ذلك الأشاعرة ومن وافقهم على أن الشرع هو الذي يعطي صفة الحسن والقبح لها. فهي ليست ذاتية، ولا يمكن للعقل الجزم بحكم الله فيها قبل الشرع. وذكر البحث أدلة الفريقين مع مناقشتها وتحليلها، وترجيح ذاتية صفتي الحسن والقبح في الأفعال في الغائب والشاهد، وإمكان العقل من الوقوف على ذلك، مع نفي المؤاخذة قبل ورود الشرع لصراحة النصوص الشرعية في أن الثواب والعقاب يترتبان بعد وصول الرسالة وإثبات الحجة.

الكلمات المفتاحية: العقل والأخلاق، التحسين والتقبيح، الحسن والقبح، تعليل أفعال الله تعالى، معضلة يوثيفرو.


1. التعريف بالبحث

1. 1. المقدمة:

العقل كما هو واضح له أثر فعال وكبير جدًا في فهم النصوص الشرعية وغيرها، فلا يمكن أن يستقيم منهج يدعي الاستغناء عنه بالكلية، وهذا معلوم بالضرورة عند كافة المدارس الإسلامية، حتى أشدها ظاهرية. ولكن.. قد تجد من تلك المدارس -سواء في الجانب الكلامي الفلسفي أو الجانب الفقهي- من أولى العقل أهمية تفوق ما يوليه غيرها من المذاهب الأخرى، فتجد في الجانب العقدي الاختلاف الفكري على أشده في جانب من جوانب فهم النصوص المتعلقة بالأسماء والصفات على سبيل المثال لا الحصر، وفي الجانب الفقهي تجد العقل حاضرًا في بيان مراد النصوص من خلال الملكة العقلية التي يمارس على إثرها مجتهدو المذاهب ملكاتهم الفقهية متبعين أصولهم المذهبية في استخراج المراد من النصوص، ومحاولة استخراج العلة من الأحكام الشرعية للقياس عليها كما هو مبسوط في مظانِّه، كون النصوص متناهية والحوادث والمستجدات لا متناهية، فالعقل هنا يلعب الدور الأبرز في تلك العملية الاستقرائية والاستنباطية ليثبت من خلاله على أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان بالفعل وليس مجرد تنظير.

ومن أبرز المفاهيم التي كانت مثار الجدل والنقاش منذ بدايات الجدل الفلسفي الإسلامي هي مسألة التحسين والتقبيح، وهي قضية قديمة تعود بواكيرها إلى الفلسفة اليونانية، وتحديدًا عند أفلاطون، إذ ذكرها في محاورة سقراط وأوطيفرون أو يوثيفرو، (أفلاطون، 2022، 32-33)، ويمكن أن نفهم بعضًا من حيثياتها فيما يسمى بـ (معضلة يوثيفرو) التي كانت تركز على مفاهيم القيم الأخلاقية والجمالية، وملخص هذه المعضلة هو: هل الله جل وعلا أمر بالخير لأنه خير، أو أن الخير خير لأن الله أمر به؟!، أي هل العدالة على سبيل المثال خير لأن الله أمر بها؟! فيكون ذلك سلب للقيمة الموضوعية لمفهوم العدالة وأنها أمر اعتباطي! أو أن الله أمر بها لأنها خير؟! ففي هذه الحالة لا يكون الله تعالى هو مصدر الأخلاق كما يدعي المؤمنون، وعليه فلا حاجة للإيمان بإله لتكوين منظومة أخلاقية، إذ الإله في هذه الحالة -مجبر- على التقيد بهذه القيم، فهي منفصلة عنه متجاوزة له كما هي متجاوزة للعقل البشري، فيكون الإله كالإنسان كاشفًا لتلك القيمة الأخلاقية ولا فرق بينهما حسب هذا المفهوم.

ويمكن عدُّ هذا التساؤل إحدى القضايا المحورية في المسألة الأخلاقية وتحديد القيم. ونؤجل عرض الحل لهذه المعضلة لاحقًا في ثنايا البحث بعد تحرير مسألة التحسين والتقبيح.

أما في الحالة الإسلامية فقد اتفقت المذاهب الإسلامية في أمور واختلفت في أخرى فيما يتعلق بقضية التحسين والتقبيح، وليس الأمر على إطلاقه كما هو معلوم. وسنحاول بيان محل النزاع وما يترتب عليه وأدلة المتنازعين في الصفحات الآتية من البحث.

ولا بد من التأكيد على أن هذه القضية لها حضور ليس في المنظومة الكلامية فحسب، وإن كانت هي الأصل في هذا المبحث (ابن السمعاني، 1999، 2/48)، بل تجدها حاضرة بشدة في المنظومة الأصولية أيضًا، وبالتالي فهي حاضرة في علم الفقه أيضًا باعتباره علمًا بالأحكام الشرعية المكتسبة من الأدلة التفصيلية عن طريق آليات أصولية. (المطيعي، د. ت، 2/260). (حلولو، 1999، 1/155)

يقول (التفتازاني، 1996، 1/325) في شرح التلويح: "فإن هذه المسألة كلامية من جهة البحث عن أفعال الباري تعالى هل تتصف بالحسن، وهل تدخل القبائح تحت إرادته، ومشيئته، وهل تكون بخلقه، ومشيئته، وأصولية من جهة أنها بحث عن أن الحكم الثابت بالأمر يكون حسنًا، وما تعلق به النهي يكون قبيحًا، ثم إن معرفتهما أمر مهم في علم الفقه لئلا يثبت بالأمر ما ليس بحسن، وبالنهي ما ليس بقبيح".

كما لا يخفى أهمية هذا البحث ومحوريته في باب القياس، إذ عن طريقه يلحق المماثل بالمماثل، وطريقة إدراك العلة فيه له علاقة وطيدة بمسألة التحسين والتقبيح أشرعي هو أم عقلي.

1. 2. أهمية البحث:

ليس خافيًا خطورة البحث في الأخلاق وكيفية البت في قيمتها الموضوعية، فالتشكيك في الأخلاق يؤدي بالضرورة إلى التشكيك في كل قيمة تقوم عليها الحياة الإنسانية، بل أن ذلك مما يناضل في سبيل إثباته المؤمنون بوجود إله ومن ينكرون وجوده، والأمر وإن كان متعذرًا عند إنكار الميتافيزيقا وعالم آخر غير المادة كما يذهب إليه الماديون، إلا أنه أيضًا يواجه تحديات في إثبات موضوعيته عند من يقولون بوجود إله، فكان من الأهمية بمكان مناقشة وطرح وجهات النظر وعرضها على الأدلة ثم الخروج بأقربها للصواب.

3.1. أسئلة البحث:

وسيكون البحث هو محاولة للإجابة على الأسئلة الآتية:

1. هل تشتمل الأفعال على صفات ذاتية أو ملازمة تحكم بحسنها وقبحها؟

2. هل العقل قادر على إدراك تلك الصفات في حال وجودها؟

3. وإن استطاع العقل إدراكه، فهل يجزم بموافقة ما أدركه لحكم الله جل جلاله؟

4. وهل تقع المؤاخذة قبل ورود الشرع؟ سواء أدرك العقل صفتي الحسن والقبح أم لم يدركهما؟

4.1. مشكلة البحث:

تدور الإشكالية في الطرح الإسلامي بين من يقولون بذاتية صفتي الحسن والقبح في الأفعال وإمكانية إدراك العقل لها، ثم ترتب الثواب والعقاب عليها عند فريق منهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى بين من ينكرون أية صفة ذاتية تتصف بها الأفعال، وهي متساوية من حيث الحسن والقبح حتى يأتي الشرع ليحدد أيهما حسن وأيهما قبيح، وكل ما عدا ذلك فهي أمور إضافية لا تكون بالضرورة مطابقة لحكم الله، لكنها معتمدة على مبدأي المصلحة والمفسدة النسبية في العقل.

5.1. نطاق البحث وحدوده:

وسيقتصر البحث في بيان هذه القضية على وجهة النظر الإسلامية، مع الاقتصار على بيان آراء أبرز المدارس الإسلامية، وهم العدلية والأشاعرة والماتريدية وأهل الحديث، دون الخوض في الفلسفات القديمة والمعاصرة.

6.1. الدراسات السابقة:

وقد كثرت الدراسات الأكاديمية في قضية التحسين والتقبيح عند الإسلاميين، وسنقتصر على ذكر أبرزها إن شاء الله.

أولًا:  دستور الأخلاق في القرآن الكريم، وهي أطروحة دكتوراه قدمها الشيخ محمد عبد الله دراز سنة 1950 لجامعة السوربون، وتعتبر من أبرز الدراسات في المجال الأخلاقي القرآني، وهي دراسة ضخمة تجاوزت 800 صفحة، وللكتاب خمسة فصول، كان الأول فيه عن نظرية الإلزام والتكليف ومصادره، فذكر من المصادر القرآن والسنة والإجماع والقياس، مع بيان ما يميز ذلك الإلزام والتكليف الإسلامي عن غيره من الفلسفات الأخلاقية، ثم مقارنة ذلك بمذهب كانت الأخلاقي ورؤيته لنظرية الإلزام، والتي تعتبر نظرية طوباوية غير متوائمة ولا متفقة مع الطبيعة البشرية، وخارجة عن قدرته. ثم كان الفصل الثاني عن المسئولية، بإعطاء فكرة عامة حولها وبيان شروطها من طابعها الشخصي وأساسها القانوني الذي تنبني عليه، وبالتأكيد بيان شرط الحرية كأساس قيمي لا يمكن تجاوزه وبناء أية قيمة أخلاقية دونه. ثم في الفصل الثاني كان التطرق إلى الجزاء كتبعات للفعل الأخلاقي، وبيان ضرورته لضمان سير الالتزام الأخلاقي في طريقه لا يعكر صفوه من لم يمنعه الوازع الديني أو الإنساني المفطور عليه. والفصل الرابع كان حول النية والدوافع ومدى شرطيتها في العملية الأخلاقية، فالمؤاخذة في معظمها مبنية على النية، سواء في الدنيا أو في الآخرة. ثم ختم بفصل خامس والذي يدور حول الجهد الذي ينبغي بذله للوصول إلى الاستقامة الأخلاقية وتوفير السبل لضمان عدم الخروج عن الخط الأخلاقي المرسوم قرآنيًا. ولم يقتصر بحث الشيخ دراز رحمه الله حول الأخلاق الفردية فحسب، بل كانت للأخلاق الأسرية والاجتماعية وأخلاق الدولة والأخلاق الدينية نصيبًا من الشرح والفهم، فلم يحصر الأخلاق في الأفراد فحسب، بل في الكيانات المختلفة التي ينبغي أن تكون متصفة بصفة أخلاقية معينة.

ثانيًا: التحسين والتقبيح العقليان وأثرهما في مسائل أصول الفقه، مع مناقشة علمية لأصول المدرسة العقلية الحديثة، للدكتور عايض الشهراني، وأصل الدراسة هي أطروحة نال بها الباحث درجة دكتوراه كان قد تقدم بها سنة 1427 هجرية إلى قسم أصول الفقه في كلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. وتقع في ثلاثة أجزاء، الأول منها كان حول فكرتها ومعناها العام، وجذورها وكيفية انتقال البحث فيها إلى المسلمين، ثم ذكر أهمية قضية التحسين والتقبيح وعلاقتها بعلم أصول الفقه، مع ذكر خلاف العلماء في مسألة التحسين والتقبيح في الفصل الأخير من الباب، وفي الجزء الثاني كان الحديث عن أثر مسألة التحسين والتقبيح في مسائل أصول الفقه، هذا في الفصل الأول. أما في الفصل الثاني فقد ذكر أثرها على المسائل المتعلقة بالأدلة الشرعية، وكذلك في الفصل الثالث كان الحديث عن أثرها على الأحكام المتعلقة بالنسخ، وفي الفصل الرابع كان حول المسائل المتعلقة بدلالة الألفاظ ومدى تأثرها بقضية التحسين والتقبيح، ثم ختم هذا الجزء أو الباب ببيان أثر هذه القضية على مسائل الاجتهاد والتقليد. وفي الباب الثالث والأخير ذكر الأثر الذي أوجدته قضية التحسين والتقبيح على المدرسة العقلية الحديثة، فمهد لفكرة المدرسة العقلية الحديثة ونشأتها، ثم وضع هذا الباب في خمسة فصول، الفصل الأول كان حول تأثر هذه المدرسة بقضية التحسين والتقبيح العقلي المطروحة في القرآن الكريم، مع محاولة لتقويم تلك النظرة من قِبل الباحث. ثم في الفصل الثاني كان في ذات القضية، ولكن في السنة النبوية، والثالث كان في مسألة الإجماع على ذات المنوال.

ثالثًا: أساس التحسين والتقبيح لدى الإسلاميين ومقارنته بمذهب كانت، للدكتور قنديل محمد قنديل السيد، وهي دراسة نشرت سنة 1978، ولم نحصل على نسخة من الكتاب لا ورقيًا ولا الكترونيًا، مما منعنا من الوقوف على تقييم لها.

1. 7. أهداف البحث:

تدور أهداف البحث حول تحرير محل النزاع بين الفرق الإسلامية في هذا الباب، وذلك بإثبات ما إذا كان للفعل صفة ذاتية يتقرر من خلالها إن كان حسنًا أو قبيحًا، وإن كان للعقل القدرة على الوقوف على تلك الصفة مستقلًا عن الشرع، وإن كان كذلك فهل ينطبق ذلك على الغائب والشاهد؟ أو أن الفريق الآخر قادر على البرهنة على بطلان كل ذلك بجعلها صفات إضافية في الأفعال لا تكتسب قيمتها إلا بالأمر الإلهي، ونفي أن تكون هنالك أية أهداف أو أغراض للفعل الإلهي.

1. 8. منهج البحث:

والمنهج المتبع في البحث هو منهج نقدي مقارن، فتطرح أقوال الفريقين في القضية مقارنًا بينها ثم يتم طرح نقاط الضعف والقوة فيها، وبيان إيرادات الفرق على بعضها ثم الخروج بعد تحليل كل ذلك بنتيجة هي أقرب للنصوص الشرعية والقطعيات العقلية.

1. 9. خطة البحث:

خطة البحث بشكل إجمالي سيكون منصبًا على بيان الأمور الآتية:

1. تحرير محل النزاع.

2. بيان قول القائلين بالتحسين والتقبيح العقلي واختلافاتهم فيما بينهم، ثم عرض أدلتهم ومناقشتها، والأمر كذلك للفريق الآخر القائل بالتحسين والتقبيح الشرعي.

3. بيان الإيرادات على كل فريق ومناقشتها.

4. نتائج البحث.

10. 1. هيكل البحث:

وسيكون الهيكل العام للبحث على النحو الآتي:

1. التعريف بالبحث.

2. مسألة التحسين والتقبيح وآراء المدارس فيها.

3. التحسين والتقبيح العقلي ومشروعية الإلزام الأخلاقي.

4. الأشاعرة والتحسين والتقبيح الشرعي

5. النتائج

6. التوصيات.

7. المصادر والمراجع.

2. مسألة التحسين والتقبيح وآراء المدارس فيها

1 .2. تعريف الحسن والقبح لغة واصطلاحًا:

2. 1. 1. الحسن لغة: تدور معانيه حول الجمال (الفیروزآبادي، 2005م، 1189). وضده السوء (الفراهيدي، 3/144)، (الفيروزآبادي، 2005م، 1189)، والقبح (الفراهيدي، 3/53)، (ابن منظور، 1414ه، 13/114).

يقول الأزهري: "الحُسن نعت لِما حسُن؛ حسُن وحسَن يحسُن حُسنًا فيهما". (ابن منظور، 1414ه، 13/114).

أما القبح لغة: "القُبْح والقَباحة: نَقيضُ الحُسْن، عامٌّ في كلِّ شيء. وقَبَحه الله: نَحّاه عن كلّ خير". (الفراهيدي، 3/53). وذهب إلى ذلك (ابن منظور، 1414ه، 2/552). و(الفيروزآبادي، 2005م، 235). و(ابن فارس، 1986م، 740).

ولوضوح هذين المعنيين فلا تجد فيهما اختلافًا ولا إغراقًا في التوضيح عند اللغويين، ويُعرف أحدهما بمقابلته بالآخر لشدة بيانهما.

2. 1. 2. اصطلاحًا: فهذا مما يدور حوله النزاع في هذا البحث، ويتبين الاختلاف في فهم حقيقته بعد تحرير محل النزاع بين العلماء وبيان الراجح منها.

2 . 2. تحرير محل النزاع:

إن تحرير محل النزاع بين الفريقين سيسهل علينا كثيرًا فهم ما يترتب على كل قول وجرد أدلتهم فيها، وهو ضروري وأساس في فهم مقالة المذاهب الفكرية في المسألة وعدم تقويل أي فريق ما لم يقل. كما أن محاولة التعريف لمفهوم التحسين والتقبيح لا جدوى منها قبل معرفة المقالات المختلفة والأسس التي بُنيت عليها تلك المقالات في هذا المجال.

ويمكن تقسيم آراء العلماء حول القضية من حيث الاتفاق والاختلاف على النحو الآتي:

1. ما وافق الطبع حسن وما نافره قبيح.

2. ما كان صفة كمال فحسن، وما كان صفة نقص فقبيح.

وفي هذين الإطلاقين فهما عقليان لا شرعيان باتفاق. (الرازي، 1997، 1/123-124). وقد تابع الفخر الرازي رحمه الله في هذا التقسيم كل من جاء بعده. كالإمام (القرافي، 1994، 1/71) وغيره كثير.

وقد ذكر الإمام (ابن الهمام، د. ت، 90-91) في المسايرة أن النزاع ليس في إمكانية العقل واستقلاله في إدراك مفهومي الحسن والقبح باعتبارهما كمالًا أو نقصًا، أو ما يلائم الغرض، لكن النزاع وقع في إمكانية استقلال العقل في إدراك الحكم الشرعي بعيدًا عن الوحي.

وكما هو واضح أن الإطلاق الأول هو أمور طبعية غريزية لا خُلقية، إذ يتساوى فيها الإنسان مع غيره من الحيوانات، فلا تدخل -على ما يبدو- في مجال الحسن والقبح لأن الإنسان مجبول عليها، فليست محلًا للبحث. وفي الإطلاق الثاني فيه إشكال نذكر طرفًا منه عند ذكر مذهب التحسين والتقبيح الشرعي.

إذن أين يقع الخلاف؟

والخلاف يقع في هذا القسم، فما استحق الذم فهو قبيح وما استحق المدح فهو حسن بمطابقتهما لحكم الله تعالى حتى قبل ورود الشرع بذلك، وهذان المعنيان هما محل النزاع بين النُظَّار، (ابن جزي، 2003، 172-173). (الآمدي، 1402هـ، 1/79).

ويبدو أن تعليق المسألة بما يستحق المدح والذم المذكور في القسم الثالث يستدعي الوقوف عنده، فإن كان المراد ما يستحق المدح والذم هنا هو المؤاخذة على الفعل والإثابة عليه من الله جل وعلا فيبدو أن في المسألة إشكالًا، إذ الخلاف لا يكون في هذه الجزئية فحسب، والنزاع ليس منحصرًا بين المعتزلة القائلين بالمؤاخذة على الأفعال قبل ورود الشرع وبين الأشاعرة القائلين بعدمه، بل هناك من يأخذ بطرف من أقوال المعتزلة وبطرف من أقوال الأشاعرة على التفصيل الآتي ذكره في الصفحات القادمة.

ولكي يكون تحرير محل النزاع أكثر دقة يرى الباحث ضرورة التركيز صوب الإجابة على هذه الأسئلة:

1. هل الأفعال مشتملة على صفات ذاتية أو ملازمة أم لا؟

2. إن كانت كذلك فهل العقل قادر على إدراكها أم لا؟

3. إن كان كذلك فهل ما أدركه العقل يجزم بموافقته لحكم الله جل وعلا أم لا؟

4. فإن فعل فهل يؤاخذ عليه قبل الشرع أم لا؟

فهذه أسئلة يمكن أن نجد إجابات لها في ثنايا البحث، وفيه تحريرٌ أكثر شمولًا لمحل النزاع بين المعتزلة والأشاعرة كطرفي نقيض، وبين الماتريدية ومن وافقهم ممن أخذ بشيء من أقوال المعتزلة وبشيء من أقوال الأشاعرة.

ومن الضروري التأكيد على أن ليس هنالك من يدعي من الفريقين تنحية العقل من عملية التمييز بين الحسن والقبح بالمعاني التي ذكرها ابن الهمام وغيره، باعتبارهما صفتي كمال أو نقص، أو ما يوافق الطبع والغرض وما ينفر منه الذوق، أو أن البعض منه مما يثنى على فاعله ويذم تاركه، لكن الخلاف الدائر هو هل يمكن معرفة الحكم الشرعي ومراد الخالق جل وعلا عن طريق العقل مستقلًا عن الوحي؟ وهل نحن محاسبون بإدراك عقولنا؟ أم أن المحاسبة لا تكون إلا بوحي من الباري جل وعلا؟ (دراز، 2021، 32).

وهذا بإجمال، والأمر فيه تفصيل، فيمكن تقسيم هذا الأمر إلى أقوال ثلاث:

القول الأول: وهو قول المعتزلة (عبد الجبار، د. ت، 6/19-30)، أن الحسن والقبح ذاتيان في الأفعال، وأن بإمكان العقل إدراك حكم الله فيها، ويستحق صاحبها المدح والذم، كما يستحق الجزاء والعقاب على أفعاله في الآخرة.

القول الثاني: وعلى رأسهم الأشاعرة (الرازي، 1997، 1/123-124)، وهو معتمد الحنابلة، منهم الإمام ابن عقيل الحنبلي (ابن عقيل، 1999، 1/26)، والإمام أبو يعلى، (أبو يعلى، 1990، 4/1259)، مع ما في كلامهما مما يشوش على موافقة الأشاعرة تمامًا في ذلك من نصوص تشابه نصوص الماتريدية من الطبقة الأولى، كالإمام الماتريدي وعلماء سمرقند على ما سيأتي بيانه. وكذلك من وافق الأشاعرة في ذلك الإمام الطوفي في كتابه درء القول القبيح بالتحسين والتقبيح، وذهبوا إلى أن الحسن والقبح ليسا بذاتيين في الأفعال، لكنهما قد يدركان بالعقل إنْ تواطئ البشر على كونه حسنًا أو قبيحًا بناء على ميزان المصالح والمفاسد، لكنه لا يوجب على الله شيئًا في مراعاته، والمدح والذم إنما يكون بعد ورود الشرع فيهما، وبطبيعة الحال فالجزاء والعقاب عاجلًا في الدنيا أو آجلًا في الآخرة يترتب بعد ورود الشرع. (مرتضى، د. ت، 2/305).

القول الثالث: أن العقل يمكنه إدراك الحسن والقبح في الأفعال، وهما ذاتيان فيها، ويمكن للعقل معرفة استحقاقه الثواب والعقاب، لكن ترتب المثوبة والعقوبة لا يكون إلا بعد ورود الشرع. وهو قول الماتريدية وابن تيمية وابن القيم وغيرهم كما سيأتي. فالإجمال هو غاية ما يدركه العقل من حسن وقبح، وتفصيله موكل للشرع، فليست كل الأفعال والأحكام في مكنة العقل الوقوف على تفاصيل حسنها وقبحها. (ابن القيم، 1432هـ، 2/1153).

وليس في هذه الأقوال من مدرسة فكرية تختص بإحداها دون الباقين، فقد تجد في المدرسة الواحدة ممن تشتهر بإحدى الأقوال وفيها من العلماء الكبار من يوافق مدرسة أخرى في هذه القضية مع التزامها بأصول مذهبها الفكري في الآن ذاته.

لذا سنحاول عرض هذه الأقوال والقائلين بها وأدلتهم مع مناقشتها، لعل ذلك يكون أدعى للوصول إلى القول الفصل في المسألة إن شاء الله.

وقبل الدخول في الأقوال وأدلتها نشير إلى أن الحسن يشمل الواجب والمندوب والمباح، فالأول يستحق فاعله المدح وتاركه الذم، والثاني يستحق فاعله المدح دون الذم، وفي الثالث لا مدح ولا ذم. (عبد الجبار، د. ت، 7/31).

أما القبح فيشمل ما يستحق صاحبه الذم، واختُلف فيما يتعلق بالمكروه، فإن كان الحسن ما كان صاحبه مستحقًا للمدح أصبح بذلك المكروه قبيحًا، فصاحبه لا يستحق مدحًا. أما إن كان تعريف الحسن ما كان فاعله غير مستحق للذم، فالمكروه في تلك الحالة يعد من أقسام الحسن.

3. التحسين والتقبيح العقلي ومشروعية الإلزام الأخلاقي

كما تقدم.. فإن المعتزلة من الفرق التي أولت العقل مكانًا متميزًا لدرجة أنهم اتهموا بجعل العقل فوق النص في مجمل تعاملاته مع النصوص الشرعية. وبغض النظر عن صحة ذلك من عدمه في مواطن أخرى، إلا أنهم بالفعل قد جعلوا العقل هنا في المسألة الأخلاقية مستقلًا تمامًا عن الوحي في الكشف عن حسن الأفعال وقبحها، إذ منحوه قدرة معرفة ما ينبغي وما لا ينبغي، ثم بنوا على ذلك استحقاقه للمدح والذم ثم الثواب والعقاب في الآخرة أيضًا، لا في الدنيا فحسب، فالقدرة على معرفة الحسن والقبح يستتبعه تحمل التبعات المترتبة عليه بغض النظر عن ظهور رسالة سماوية أم لا.

إذن فمن الأفعال ما يكون الحسن والقبح صفتان ذاتيتان فيها، والشرع إنما هو كاشف ومؤكد لتلكم الصفات لا منشئًا لها. هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن العقل في مُكنته الكشف عن تلك الصفات دون الحاجة إلى كشف الشرع لحسنه وقبحه. (عبد الجبار، د. ت، 1/255).

ووافق المعتزلةَ في ذلك الماتريديةُ، إذ "ذهب جمهور مشايخ الحنفية إلى أنه تعالى لو لم يبعث للناس رسولًا لوجب عليهم بعقولهم معرفة وجوده تعالى ووحدته واتصافه بما يليق به من الحياة والعلم والقدرة وغيرها، وكونه محدثًا للعالم، كما هو المشهور عن الإمام الأعظم والمستفاد من التأويلات للإمام علم الهدى أبي منصور الماتريدي". (زاده، 1317هـ، 35).

ويبدو أن أبا الهذيل قد لخص ذلك فيما نقله عنه الشهرستاني، إذ ذكر بأن معرفة الله جل وعلا واجبة، فإن قصر في إدراكه كان ذلك مستوجبًا للعقوبة لا مناص، ويجب عليه الإتيان بالصدق والعدل باعتبار حسنهما، ويعرض عما سوى ذلك من القبيح كالكذب والظلم، وذلك كله على سبيل الوجوب مما لا يعذر بجهله. (الشهرستاني، 2011، 79).

والإلزام هنا هو الذي يكسب المفهوم الأخلاقي قيمة، فإن فكرة الإلزام هي المستند لأي مدرسة أخلاقية تحاول تأسيس مذهبها الأخلاقي، فبدونه لا تكون هنالك قدرة على بسطها على البشر، فالإنسان ليس كائنًا يعتمد على المنطلق العقلي فحسب ليطبق ما يراه حسنًا أو قبيحًا، بل تتداخل البواعث العقلية والنفسية والوجدانية لتشكل الدافع لاتخاذ موقف من قيمة أخلاقية معينة ومن الاندفاع نحوها، أما وإن تم تجاهل العامل النفسي والوجداني لدى الإنسان فليست هنالك أي ضمانات أن يتبع عقله في حكمه بحسن هذا وقبح ذاك، بل نفسه أمارة بالسوء، وعليه أن يُلزم بقوة خارجة عنه لتطبيق تلك القيم الأخلاقية والأخذ بها، وإلا لانتشرت الفوضى وساد الظلم. (دراز، 1998، 21).

فمن الواضح هنا -حسبما سبق- أن ما يحسنه العقل لا بد أن يحسنه الشرع من حيث إن واضعهما وخالقهما واحد، فالشرع لا يخالف العقل فيما أوجبه من حسن أو قبح، فكما أن العقل إنما أدرك تلك الصفات بما أودعه الله تعالى فيه من قدرة على التمييز والفرز، فلا يمكن أن يأتي شرعٌ ينقض ما ترسخ فيه من المبادئ الأخلاقية. كما أن الإلزام والمؤاخذة على الاتيان بأيِّ الفعلين هو الذي يعطي الفعل الأخلاقي قيمة، وأقل تلك المؤاخذات هي ذم الفاعل ومدحه على إتيانه هذا الفعل أو ذاك.

فمدار البحث يكون على جانبين:

أولًا: صفتا الحسن والقبح ذاتيان.

ثانيًا: هاتان الصفتان يمكن للعقل الكشف عنهما دون الاستعانة بالشرع، والشرع إنما يأتي مؤكدًا لما كشف عنه العقل، وهذان أمران اتفق عليهما القائلون بالتحسين والتقبيح العقلي.

وينبني على ما سبق عند المعتزلة ترتب آثار ذلك من مدح وذم وثواب وعقاب في العاجل والآجل، على أن ما سبق لا يلزم عند البقية المتفقين في ذاتية الحسن والقبح في الأفعال.

وينبغي التأكيد على أن المعتزلة والماتريدية والكرامية وبعض الشافعية، ومعهم الإمامية وابن تيمية وابن القيم وغيرهم ممن يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين لا يقولون بأن كل ما هو حسن أو قبيح إنما هو ذاتي الحسن والقبح، وأن العقل قادر على معرفتهما دون استعانة بالشرع، فالأمر فيه شيء من التفصيل.

أولًا: فهنالك من الضروريات الأخلاقية ما لا حاجة لإخبار الشارع به لمعرفة حسنه أو قبحه، كحسن العدل وقبح الظلم.

ثانيًا: وهنالك من الممارسات الأخلاقية ما هي بحاجة إلى تأمل وتفكير للحكم بحسنها وقبحها، فلا تتبادر إلى الذهن مباشرة، لكنها تكتسب صفتها الأخلاقية بمجرد إدراكها واستيعابها وتوفر شروطها، كحسن اتباع النبي وقبح محاربته.

ثالثًا: أما القسم الثالث فهو ما كان العقل عاجزًا عن الحكم على حسنه وقبحه إلا بخبر من الشارع، كالصلاة والصيام، والسجود لغير الله وغيرها من الأمور المتعلقة بأبواب العبادات. (عبد الجبار، د. ت، 1/256).

وبتعبير الإمام النظَّام المعتزلي رحمه الله فيما ينقله عنه الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله بأن المعصية إن كانت مما يُجوِّز العقل أن يأمر به الباري جل وعلا فإن النهي عنه هو ما قضى بقبحه، أما ما يستحيل الأمر به من قِبل الباري جل وعلا فهي قبيحة في نفسها، وقس على ذلك الحسن أيضًا. (الأشعري، 1980، 356).

بمعنى أنها على قسمين:

1. إما أن تكون قبيحة في نفسها، وفي مكنة العقل الكشف عن ذلك القبح، سواء ورد الشرع بإثبات قبحها أم لم يرد، بل على هذا القول إن ورد نص على خلاف ذلك لكان قدحًا في مصداقية النقل وبطلانه.

2. أو أن تُكتسب صفة القبح من النهي، ولولا النهي عنها لكان من الجائز أن توصف بالحسن. فهذه لا توصف بالحسن والقبح الذاتي، ولا قدرة للعقل على التمييز فيها. (عمارة، 1988، 125).

وسنذكر أدلة القائلين بالتحسين والتقبيح العقلي في قدرة العقل على معرفة الحسن والقبح دون إخبار الشارع بذلك، ومعلوم أن ذلك سيكون من ضمن أدلتهم على ذاتية الحسن والقبح، فإن كان العقل قادرًا على الكشف عنهما وجعل الصفة ملازمة لها، فلا بد أن تكون هذه الصفات ذاتية فيها، فتكون أدلة قدرة العقل هي أدلة ذاتية الحسن والقبح. والأدلة هنا لا تعني أن جميع القائلين بالتحسين والتقبيح العقلي يوافقون بعضهم في تفاصيلها جميعها، بل هنالك أمور اتفقوا عليها وأخرى اختلفوا فيها سيأتي بيانها لاحقًا بعد ذكر أدلة ذاتية الحسن والقبح في الأفعال، وقدرة العقل على الكشف عنها.

3 .1. أدلة القائلين بذاتية الحسن والقبح في الأفعال:

وكانت حجتهم في هذه المسألة مجموعة من الأدلة النقلية والعقلية نسرد أبرزها كالآتي:

3 .1 .1. الأدلة النقلية:

1. وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلۡمٗا لِّلۡعِبَادِﵞ ﵝغَافِر : ﵑﵓﵜ. وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِﵞ ﵝفُصِّلَت : ﵖﵔﵜ.

يقول الإمام (الزمخشري، 1407، 4/165): "وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلۡمٗا لِّلۡعِبَادِﵞ ﵝغَافِر : ﵑﵓﵜ يعني أن تدميرهم كان عدلًا وقسطًا، لأنهم استوجبوه بأعمالهم، وهو أبلغ من قوله تعالى وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِﵞ ﵝفُصِّلَت : ﵖﵔﵜ حيث جعل المنفي إرادة الظلم، لأنّ من كان عن إرادة الظلم بعيدًا، كان عن الظلم أبعد. وحيث نكر الظلم، كأنه نفى أن يريد ظلما مّا لعباده".

وأوضح منه ما ذكره القاضي عبد الجبار، حيث قال: "أن الله تعالى تمدَّح بنفي الظلم عن نفسه مدحًا يرجع إلى الفعل، حيث قال: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِﵞ ﵝفُصِّلَت: ﵖﵔﵜ. وقال: إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظۡلِمُ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖﵞ ﵝالنِّسَاء: ﵐﵔﵜ. وقال: وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗاﵞ ﵝالكَهۡف: ﵙﵔﵜ. ولا يحسن أن يتمدح بنفي الظلم عن نفسه، وهو غير قادر عليه... كذلك ههنا، إذا لم يكن القديم تعالى قادرًا على القبيح، وجب ألا يحسن منه أن يتمدح بترك الظلم". (القاضي عبد الجبار، 1996، 315-316). فالقدرة على فعل الشيء وتركه هو الذي يمنح الاختيار، وبالتالي استحقاق المدح والذم عليه، فمدح الله تعالى نفسه بما هو قادر على ضده إن فعله كان ظلمًا حاشاه، وبالتالي نقصًا، وهذا ممتنع في حقه جل وعلا.

2. قوله تعالى: ﵟوإِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةٗ قَالُواْ وَجَدۡنَا عَلَيۡهَآ ءَابَآءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَاۗ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَأۡمُرُ بِٱلۡفَحۡشَآءِۖ أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَﵞ ﵝالأَعۡرَاف: ﵘﵒﵜ. فالمراد هنا أن صفة الفحشاء هي صفة نقص كمفهوم كلي، لا يأمر بها، فإن كان الأمر من الباري جل وعلا كافيًا لتحسين الفعل لما جاز أن يكون هناك شيء يسمى فحشًا في حقه جل جلاله طالما أنه أمر به.

ويفسر ابن تيمية رحمه الله الفاحشة هنا تفسيرًا يؤكد بها ذاتية القبح فيها، رادًّا القول المخالف، بأن هذه الآية من الأدلة بأن مما يمنع الشارع من الأمر ببعض الأفعال هي لما فيها من الصفات الذاتية السيئة، وذلك لورود الآية في سياق ينكر عليهم اتهامه بالأمر بالفحشاء، فدل على امتناع الأمر به لعدم جوازه عليه جل وعلا وتنزهه عنه لقبح صفة الفحشاء في ذاتها. فكل ما كان قبيحًا في ذاته وفاحشة في نفسه لم يأمر الله به لذلك. (ابن تيمية، 2004، 15/8). وقبل الإمام ابن تيمية فالإمام الرازي يفسر هذه الآية على نحو من يقول بالتحسين والتقبيح العقلي مع أنه ناف له، فيفسر الفاحشة بأنها ما تشتمل في ذاتها على ما يستلزم النهي عنها. (الرازي، 2000، 14/56).

3. أَفَنَجۡعَلُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ كَٱلۡمُجۡرِمِينَ ٣ مَا لَكُمۡ كَيۡفَ تَحۡكُمُونَ ﵞ ﵝالقَلَم: ﵕﵓ-ﵖﵓﵜ. أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ كَٱلۡمُفۡسِدِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلۡمُتَّقِينَ كَٱلۡفُجَّارِﵞ ﵝص: ﵘﵒﵜ.

يقول الشيخ رشيد رضا في تفسيره بأن الله تعالى المتصرف في ملكه القادر على كل شيء، لا يوجب عليه أحد شيئًا إلا ما أوجبه على نفسه جل وعلا، فيردف قائلًا بأن القول بالقدرة الإلهية الكاملة لا يعني بأنه يجوز في حقه تعالى أن يجعل المسلم كالمجرم والمتقي كالفاجر، فهذا من المحال في العقل والشرع". (رضا، 1990، 8/44).

فالله سبحانه في هاتين الآيتين يستنكر على من يساوي بين المسلمين والمجرمين استنكارًا يستلزم قبحه قبل أن يؤكد الباري جل وعلا ذلك القبح، فمستقر في النفوس قبح التسوية بين الخير والشر، بين المسلم والمجرم، بين المؤمن والمفسد، بين التقي والفاجر. فكل هذا الاستنكار لا يتوجه إلا بتقرير اتفاق العقول السليمة على عدم التسوية بين هذه المعاني المتضادة، وعدم صدوره عن عاقل يستلزم إمكانية إدراك عقله لوجه القبح فيه وإلا فلن يكون لاستنكار ذلك عليهم معنى.

4. قال تعالى: أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجۡتَرَحُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن نَّجۡعَلَهُمۡ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَوَآءٗ مَّحۡيَاهُمۡ وَمَمَاتُهُمۡۚ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَﵞ ﵝالجَاثِيَة: ﵑﵒﵜ. يقول الشيخ (الزحيلي، 1418هـ، 4/187) في تفسيره لهذه الآية والآيتين السابقتين بعدما ذكر ما يعاقب الله تعالى به اليهود على كفرهم: "وليس هذا العذاب في غير محله، وإنما هو في غاية العدل والحكمة لأن الله لا يظلم أحدًا، ولأنه لا يعقل التسوية بين العاصي والطائع، وبين الكافر والمؤمن". فمسألة عدم عقلانية التسوية بين العاصي والطائع بديهية، فمن غير الحكمة -حسب هذه الآيات- أن يساوي الله تعالى بين هذا وذاك، وقاعدة أنه جل وعلا لا يقبُح في حقه مقدور مردودة بهذه النصوص الصريحة، إذ كل ذلك في نطاق قدرته، لكن ما يمنع من فعلها أنها تعد نقصًا في ذاتها، وهو مستحيل في حق الباري جل وعلا، فامتنع عن الإقدام عليها.

5. أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًىﵞ ﵝالقِيَامَة : ﵖﵓﵜ. وهذا استفهام استنكاري بيِّن، إذ لا معنى له إن لم يكن العقل يرى عبثية تركه سدى دون رسالة ودون مؤاخذة قبل أن يرد الشرع بتأكيد عبثية هذا التفكير الخاطئ.

يقول الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله، -وهو من القائلين بالتحسين والتقبيح الشرعي- في تفسيره: "وتقريره أن إعطاء القدرة والآلة والعقل بدون التكليف والأمر بالطاعة والنهي عن المفاسد يقتضي كونه تعالى راضيًا بقبائح الأفعال، وذلك لا يليق بحكمته، فإذًا لا بد من التكليف، ‌والتكليف ‌لا ‌يحسن ولا يليق بالكريم الرحيم إلا إذا كان هناك دار الثواب والبعث والقيامة". (الرازي، 2000، 30/206). وفهم الإمام هذا لا يصح ما لم يكن هنالك حكم عقلي مسبق على قبح الأمر بالمفسدة والنهي عن الطاعة في حقه جل وعلا، فتنزهه عنه من مقتضيات كماله سبحانه. ولوضوح الأمر تجد بين الفينة والأخرى حتى المقررين للتحسين والتقبيح الشرعي يقرون هذا المعنى.

ويضيف ابن القيم رحمه الله: "لأن الثواب والعقاب غاية الأمر والنهي، فهو سبحانه خلقهم للأمر والنهي في الدنيا والثواب والعقاب في الأخرى، فأنكر سبحانه على من زعم أنه يترك سدى إنكار من جعل في العقل استقباح ذلك واستهجانه، وأنه لا يليق أن ينسب ذلك إلى أحكم الحاكمين". (ابن القيم، 1432هـ، 2/887).

6. يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَﵞ ﵝالأَعۡرَاف : ﵗﵕﵑﵜ

يقول ابن تيمية عن هذه الآيات وغيرها في استنكار على من أنكروا التحسين والتقبيح العقلي: "وعلى قول النفاة: لا فرق في التسوية بين هؤلاء وهؤلاء، وبين تفضيل بعضهم على بعض، ليس تنزيهه عن أحدهما بأولى من تنزيهه عن الآخر، وهذا خلاف المنصوص والمعقول". (ابن تيمية، 2004م، 8/434). فلا فضيلة لأحدها على الأخرى سوى مجرد الأمر لإعطاء قيمة موضوعية لها يرجح كفتها على الأخرى، فإن عجز عن تمييزها بعقله لقصوره جاء الشرع ليبرز له الحق فيها ويبعده عن المنكر منها ببيانها، ويُميز الطيب من الخبيث، وإلا فإن تساويهما في ذلك وعدم وجود مصلحة في إحداها تميزها عن الأخرى تجعل الاختيار عبثيًا.

يقول صاحب النكت: "وإنما سمي الحق معروفًا لأنه معروف الصحة في العقول، وسمي الباطل منكراً لأنه منكر الصحة في العقول". (الماوردي، د. ت، 2/268).

7. أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ عَبَثٗا وَأَنَّكُمۡ إِلَيۡنَا لَا تُرۡجَعُونَﵞ ﵝالمُؤۡمِنُون : ﵕﵑﵑﵜوهذا استفهام استنكاري آخر من ضمن عدد كبير من أشباهها من الآيات يستلزم قبح العبث ابتداءً، وإلا فلا مسوغ للاستنكار المتوقف على الإرادة فحسب. فللآخر أن يسأل: لِمَ يا رب لا يمكننا أن نفكر حتى مجرد تفكير بأن خلقك لنا عبثًا ممكنٌ عقلًا؟ّ! هل هو قبيح في حقك أن تخلق عبثًا؟ وهو اللعب كما ذكره (ابن منظور، 1414 ،2/166)، و(ابن فارس، 1986، 642) وغيرهم؟! فإن كان قبيحًا فكيف اكتسب صفة القبح هنا قبل نهيك عنه؟! وإن كنت نهيت عنه ولم نسمع بذلك النهي فأين وجه الاستنكار على من ظن أنه خُلِقَ عبثًا قبل أن يرد إليه شرع يخبره بقبح ذلك؟!

8. ومن السنة قول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا ‌كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم». قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم»". (البخاري، 1993، 3/1319).

وكما هو واضح من سؤال حذيفة رضي الله عنه أنه سماه جاهلية وشر قبل ورود الشرع، وأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك. وأوضح منه الآتي.

9. أن عمرو بن العاص حينما اشترط شرطه ذاك على رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا أزمع على مبايعة النبي عليه أفضل الصلاة والسلام إذ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "أردت أن أشترط. قال: «تشترط بماذا؟» قلت: أن يغفر لي، قال: ‌«أما ‌علمت ‌أن ‌الإسلام ‌يهدم ‌ما ‌كان ‌قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله». (مسلم، 1334هـ، 1/78).

فهذا الحديث جلي واضح ببيان أن ما بدر منكم قبل إسلامكم فهو خطيئة وذنب، فدخولكم في الإسلام إنما جاء فمحى المؤاخذة على تلك الأفعال، مع بقاء تلك الأفعال موصومة بالخطأ والذنب، لكن لا مؤاخذة عليها إلى أن يأتي شرع يضع القوانين والأحكام التي على إثرها يثيب ويعاقب. وفي هذا الحديث الرد على المعتزلة أيضًا في قولهم بالمؤاخذة قبل ورود الشرع. وكان يكفي إن كانت هذه الأفعال غير موصوفة بحسن وقبح قبل ورود الشرع أن يخبره الرسول الأكرم عليه أفضل الصلاة والسلام أن لا قيمة لما فعلتموه، ولا توصف بشيء، فتقييم المبادئ الأخلاقية تبدأ لكل شخص منذ اللحظة التي يدخل فيها الإسلام، ولا قيمة لأحكامكم المسبقة بحسن وقبح.

والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة نكتفي بما ذُكِر لأن البقية تصب في ذات المعنى ومنعًا للإطالة المخلة.

3. 1. 2 الأدلة العقلية:

1. يشير القاضي (عبد الجبار، 1996، 303) في شرح الأصول الخمسة إلى أن الإنسان حينما يخير بين إقدامه على الصدق أو الكذب دون أن تتفاوت التبعات فيها، مع علمه بأن الكذب قبيح لا يفيده في شيء، فهو لا بد من أن يقدم هنا على الصدق لا محالة، وهذا يدل -حسب القاضي- أنه ما أقدم على الصدق إلا لعلمه بقبح نقيضه وهو مستغن عنه في الوقت ذاته، وهذا ينطبق على الباري جل جلاله، فلا يختار الكذب البتة.

فما يعتمد عليه القاضي عبد الجبار هنا هو التسوية في التبعات على الفعل، فإنه يرى بأن المُخيَّر بين قيمة مطلقة كالصدق والكذب إن أمِنَ العقاب وتساوت النتائج سواء في اختيار هذه القيمة أو ضدها فإنه لا بد من أن يختار القيمة الحسنة التي اتفقت البشرية بأسرها على حسنها. والأمر كما ذكر سيان في حق العباد وفي حق الباري عز وجل، إذ أنه جل وعلا لا يختار الكذب بحال لغناه عنه ولكونه صفة نقص في ذاته.

2. أن حسن الفعل وقبحه إن كان متوقفًا على الأمر والنهي الإلهي لما حسُن من أفعال الله تعالى شيء، لأن الحسن متوقف على الأمر به، فكما لا يقبح في حقه شيء لفقدان النهي، فلا يحسن في حقه شيء لفقدان الأمر، والجهل بالآمر والناهي في حق المخلوقين يستلزم منه عدم معرفة مفاهيم الظلم والعدل والصدق والكذب من حسن وقبح كل منها عند الملاحدة الذين لا يعرفون الآمر والناهي بتلك القيم وعنها. فمعرفتهم غير مبررة بمعرفة الخالق جل وعلا، وطالما أن الواقع يخالف ذلك ثبت أن الأمر عقلي. (القاضي عبد الجبار، 1996، 311)

3. أن توقف الحسن والقبح على الأمر به من قِبل الباري عز وجل في القيم الأخلاقية جميعها يجعل تلك القيمة محل شك، إذ أن الرسالة المحمدية متوقفة على تأييد رجل صادق بأمور خارقة للعادة ليتثبت الناس من صدقه، فإن جاز أن كل فعل لله تعالى يكتسب حسنه فقط من أمره وفعله جل جلاله له؛ لجاز أن يؤيد الكاذب بالمعجزات ولا يكون ذلك قبيحًا في حقه، فكان ذلك من أشد المطاعن في صحة الإسلام. (القاضي عبد الجبار، 1996، 321). (الحلي، 1414هـ، 87).

4. وينبني عليه أيضًا أن إقامة الحجة على غير المقتنع بالنبوة متعذر، لأنه لا يحسن الإيمان بالشرع إلا بعد ورود الشرع، فإن لم يكونا -التحسين والتقبيح- عقليين استويا في الحكم عليه، ويقتضي ترجيح حسن قبول الشرع ترجيحًا بغير مرجح. فإن توقف معرفة الحسن والقبح على الشرع عند من لا يقبل الشرع يستلزم عدم معرفتهما أصلًا. "لأن وجوب تصديق النبي صلى الله عليه وسلم إن توقف على الشرع يلزم الدور". (صدر الشريعة، 1996م، 1/355).

بعبارة أخرى أننا لا يمكننا الجزم بصدق الشارع إن لم نكن نعتقد بصدق القضايا التي يطرحها، ولا نعلم حسن الصدق وقبح الكذب بعد لتوقف الجزم في ذلك على الشارع الذي هو بحاجة أساسًا إلى متكئ عقلي يستند عليه، وما أدرانا أن يُحسِّنَ الشارع الكذب علينا طالما أن العقل غير موثوق في حكمه بحسن هذا وقبح ذاك؟ّ! فالدور واضح وجلي هنا.

وينقل ابن عاشور في تفسيره هذا الاعتراض عن المعتزلة، والذي ظاهرهم عليه بعض من الشافعية وكذلك الماتريدية، بل على ما يبدو أن من قال بالتحسين والتقبيح العقلي جميعهم قد وافقوا على الإلزام، فيشير ابن عاشور بأن الأشاعرة قد تضايقوا من إلزام المعتزلة لهم في مسألة وجوب المعرفة، إذ أن الأشاعرة -حسب ابن عاشور- لم يقدموا إجابة شافية مقنعة في هذه القضية. (ابن عاشور، 1984، 6/41-42). ثم نقل قولًا للإمام الجويني رحمه الله في رده وافقه فيها من جاء بعده من الأشاعرة جميعهم حسبما ذكر ابن عاشور، لكن وافق ابن عاشور ابن عرفة بأنها تؤكد قول المعتزلة أكثر مما تنفيه. لكنه -أي ابن عاشور- اقترح بديلًا للرد على إلزام المعتزلة إياهم، ملخصها:

أ‌)     أن تعاقب الرسل والشرائع جعل البشر يعلمون بوجود ظاهرة النبوة والرسالة في عصور عدة للحد الذي يدفعهم دفعًا للاستماع لكل من يدعي الرسالة لاستحضاره تلك الأخبار عن الرسالات السابقة، فيوجب ابن عاشور رحمه الله ذلك وجوبًا اضطراريًا ينظر من خلاله لرسالة المدعي للنبوة ويستمع إليه. (ابن عاشور، 1984، 6/42).

وقد جانب الصواب الإمام ابن عاشور رحمه الله في هذا الاستدلال، فالحديث هنا عن حسن استماعه وقبح إعراضه بصرف النظر عن إلزامه العقلي بالاستماع، فإن امتنع عن الاستماع لأي سبب كان؛ لما قَبُحَ منه ذلك لتوقف الحسن والقبح أساسًا على الشرع، فهو لم يلتزم بالشرع أساسًا لتبدأ إلزامات الشرع له بتوصيف الأفعال بالحسن والقبح، وعليه فلا يحاسب على إعراضه، فهذا وإن لم يكن قولهم إلا أنه لازمه.

ويبدو أن الإمام ابن عاشور قد استفاد هذه النتيجة من حجة الإسلام الغزالي رحمه الله في رده على هذا الاعتراض قائلًا: "قلنا هذا يضاهي قول القائل للواقف في موضع من المواضع إن وراءك سبعاً ضارياً، فإن لم تبرح عن المكان قتلك، وإن التفت وراءك ونظرت عرفت صدقي، فيقول الواقف: لا يثبت صدقك ما لم ألتفت ورائي، ولا ألتفت ورائي ولا أنظر ما لم يثبت صدقك، فيدل هذا على حماقة هذا القائل وتهدفه للهلاك". (الغزالي، د. ت، 1/113).

وتسري على إجابة الإمام الغزالي رحمه الله ما يسري على إجابة الإمام ابن عاشور رحمه الله من أن الحديث عن إطلاق مسمى الحسن والقبح لا عن مجرد الإلزام العقلي، فعدم التفاته للمعجزة لا يلزمه -شرعًا- بقبح فعله لعدم دخوله ضمن دائرة الشرع الأخلاقية بعد، فما زال عدم نظره في الشرع ليس بقبيح حتى يلتفت إلى أدلة الشرع، وأدلة الشرع تحتاج إلى التفاتة وآذان صاغية، فعليه لم يكن يقبح من بعض مشركي قريش حينما كانوا يعرضون عن الاستماع للرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، مع أننا نسلم بأنه فعل أحمق وتهدُّف للهلاك بتعبير الإمام الغزالي، لكنه يبقى غير ملزم أخلاقيًا على النحو الذي يقرر فيه السادة الأشاعرة الحسن والقبح.

ب‌) التسليم، فيذكر ابن عاشور رحمه الله أن داعية النظر تتحرك عند الإنسان ليشبع فضوله مما جَدَّ من الأخبار، فجبلته تجبره على الاستماع إلى النبي، ثم يعي ما يقوله، ثم تجذبه الدعوة شيئًا فشيئًا حتى يطلع على المعجزة فيعلم من خلالها صدق الرسول، فإن امتنع عن الاطلاع على المعجزة ولم يقبل الاستماع إلى هذه الدعوة، فهو بذلك معاند يستحب العمى على الضلال.

وهذه أيضًا كسابقتها لا تخلو من نقد، لأنه قبل الاستماع كيف يقبح منه عدم رغبته في الاستماع؟!، فيقول ابن عاشور عن المُعرض عن الاستماع ابتداءً: "لأن هذا ما صنع صنعه إلا بعد أن علم أنه قد تهيأ لتوجه المؤاخذة عليه إذا سمع فعصى، وكفى بهذا شعورًا منه بتوجه التكليف إليه فيكون مؤاخذا على استحبابه العمى على الهدى". (ابن عاشور، 1984، 6/43). فهذا صريح بأن الشرع لم يأمره بعد ولم ينهه، فمن أين اكتسبت صفة القبح إن لم تكن عقلًا؟!

5. إن هنالك من المفاهيم الأخلاقية ما هي أوضح وأجلى من غيرها في حسنها وقبحها، فالعدل أوضح في حسنه من التصدق على المحتاج، والظلم أظهر في قبحه من شرب الخمر، وطالما أن طريق بيان صفتي الحسن والقبح فيهم واحد -وهو إخبار الشارع- كان التفاوت في بيانها ووضوحها غير سائغ. (القاضي عبد الجبار، د. ت، 1/255).

6. وينقل الفخر الرازي عن المعتزلة اعتراضًا آخر مؤداه أن الحكم بحسن كل ما صدر عن الله تعالى لمجرد صدوره عنه جل وعلا يعني أنه لا يقبح في حقه شيء حتى (الكذب) تعالى الله عن ذلك، ومؤدى ذلك أن لا يعني الوعد والوعيد منه تعالى شيئًا للمتلقي، ولا يرفع الإشكال أن نقول أن كون الكلام أزليًا يحيل كونه كذبًا، لأن ذلك لا يعني أننا نسمع ما هو خلاف ما عليه الشيء في نفسه من الكلام اللفظي. (الرازي، 1997، 1/129).

7. وكذلك فإن مسألة القياس والمصالح المرسلة والاستحسان من المسائل المبثوثة في كتب أصول الفقه والفقه لا يمكن الاعتماد عليها إن لم تكن الأحكام معللة بمصالح ومفاسد تجعلها حسنة أو قبيحة، فيكون القياس مبنيًا على الاشتراك في العلة المدركة عقلًا، وإلا لما انضبطت الأحكام الشرعية، ولفقدنا مصدرًا ثرًا غزيرًا من مصادر الأحكام.

والجمهور على أن القياس من الطرق المعتبرة في استخراج الأحكام الشرعية، ونقل غير واحد -منهم الباجي- الإجماع على جواز التعبد بالأحكام المستفادة من القياس. (الباجي، 1989، 460).

وتعد هذه أبرز أدلة المعتزلة ومن وافقهم على وجود التحسين والتقبيح العقلي. ووافقهم في ذلك أبو حنيفة وأبو منصور الماتريدي، والإمامية، وابن تيمية، وابن القيم، وخلق آخرون من العلماء من مختلف التوجهات والمذاهب الفكرية. وسنذكر أبرز الاعتراضات على هذا القول لاحقًا بعد ذكر أدلة القائلين بالتحسين والتقبيح الشرعي.

لكنهم وإن كانوا اتفقوا في مسائل إلا أنهم اختلفوا في أخرى نذكرها كالآتي:

1. اتفقوا على أن صفتي الحسن والقبح ذاتيتان في الأفعال.

2. اتفقوا على أن للعقل قدرة على تمييز الحسن من القبيح سواء بداهة أو نظرًا.

3. اتفقوا على أن الله تعالى لا يفعل إلا الحسن ويتنزه عن القبيح.

4. اتفقوا على قدرة الله تعالى على فعل ما إن فعله لكان قبيحًا، لكنه لا يفعل القبيح لأنه لا يريده ولا يليق بكماله جل وعلا، وهو غني عنه. أي أن الصفة الذاتية في الفعل مستقلة عن إرادة المولى جل وعلا.

أما ما اختلفوا فيه فكان كالآتي:

1. اختلف المعتزلة مع الماتريدية وابن تيمية في وجوب الأصلح على الله تعالى، فأوجبها المعتزلة ونفى وجوبها على الله الباقون، فإن الله تعالى لا يجب عليه شيء إلا ما أوجبه هو جل وعلا على نفسه منة وتفضلًا، كما أن كل صلاح هنالك ما هو أصلح منه، فتعلق قدرة الباري جل وعلا بما هو أصلح لا نهاية لها، فكان كافيًا في حقه تعالى أن يفعل ما فيه صلاح مخلوقاته. (صدر الشريعة، 1996، 1/357).

وذهب الإمام ابن تيمية رحمه الله إلى أن القول بالإيجاب على الباري عز وجل قياسًا على الخلق هو قول القدرية، وقول أهل السنة قاطبة أنه تعالى لا يوجب عليه أحد من مخلوقاته شيء، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الوجوب المقصود في كلام أهل السنة هو الوجوب الذي أوجبه الله على نفسه لا الوجوب الذي يلزمه به غيره تعالى الله عن ذلك. (ابن تيمية، 1999، 2/310).

ويحرر الشيخ ابن قاضي الجبل قول شيخه الإمام ابن تيمية كما نقله المرداوي بالقول: "‌الحسن ‌والقبح ‌ثابتان، والإيجاب والتحريم بالخطاب، والتعذيب متوقف على الإرسال". (المرداوي، 2000، 2/719).

2. واختلف المعتزلة مع غيرهم في مسألة المحاسبة على الأفعال قبل ورود الشرع، فكانوا يثبتون المؤاخذة على الأفعال قبل البعثة، أما البقية فخالفوهم في ذلك، ذهب أبو منصور الماتريدي على أنه يحاسب في أمور قبل ورود السمع دون أخرى، منها الإلهيات والنبوات، أما دون ذلك فلا، فينقل ابن الهمام الحنفي أن الإمام الماتريدي ويتبعه في ذلك عامة مشايخ سمرقند القول بوجوب الإيمان بالله تعالى قبل الوحي، وعدم وصفه بما هو غير لائق بالإله جل وعلا، وتعظيم شأنه، وتصديق رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام، كل ذلك يدخل في الوجوب لا يعذر بعدم ورود الشرع به. وينقل أيضًا ذلك عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله، فلا يرى عذرًا للجهل بالخالق جل جلاله، فلا تتوقف معرفته على بعثة رسول وورود وحي. (ابن الهمام، د. ت، 97-98).

ويضيف مقارنًا بين مذهب المعتزلة ومذهبه الماتريدي: "قالوا -المعتزلة- العقل عندهم إذا أدرك الحسن والقبح يوجب بنفسه على الله وعلى العباد مقتضاهما، وعندنا الموجب هو الله تعالى والعقل آلة يعرف به ذلك الحكم بواسطة اطلاعه على الحسن والقبح الكائنين في الفعل". (ابن الهمام، د. ت، 98). لكن هنالك نصوص من أئمة المعتزلة ينفون الإيجاب على الله جل وعلا، بل الأمر هو شبيه بما نقله ابن الهمام عن الإمامين أبو منصور الماتريدي وأبو حنيفة.

ومن الضروري بيان أن الماتريدية قد انقسموا على قسمين في مسألة المؤاخذة دون ورود الشرع، فالإمام أبو حنيفة والإمام أبو منصور الماتريدي وعامة أئمة سمرقند رحمهم الله جميعًا على المؤاخذة قبل ورود الشرع، ومن لم يؤمن بالله قبل ورود الشرع فهو خالد مخلد في النار موافقين جمهور المعتزلة في ذلك، ويخالفهم أئمة بخارى رحمهم الله بأنه ليس بالضرورة أن يوافق حكم الله ما تقرر في العقل حسنه، فقد ينهى عن الإيمان مع حسنه، ويأمر بالكفر به مع قبحه، إذ هو غني عن الإيمان غير متضرر بالكفر. (ابن الهمام، د. ت، 100، 105).

ورد الزمخشري على استدلال الأشاعرة وبعض الماتريدية ومن وافقهم بعدم المؤاخذة قبل إرسال الرسل استدلالًا بالآية، وذلك أن الآية دالة على عدم المؤاخذة قبل الرسل، وأن المعتزلة يثبتونها، فقال الإمام الزمخشري رحمه الله: "الرسل منبهون عن الغفلة، وباعثون على النظر، كما يرى علماء أهل العدل والتوحيد مع تبليغ ما حملوه من تفضيل أمور الدين وبيان أحوال التكليف وتعليم الشرائع، فكان إرسالهم إزاحة للعلة وتتميما لإلزام الحجة، لئلا يقولوا: لولا أرسلت إلينا رسولًا فيوقظنا من سنة الغفلة وينبهنا لما وجب الانتباه له". (الزمخشري، 1987، 1/591).

وليوافق مذهبهم في جواز المؤاخذة، يقول ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة بعد ذكر الآية 15 من سورة الإسراء، والآية 165 من سورة النساء: "فإن قلت: فهذا يناقض مذهب المعتزلة في قولهم بالواجبات عقلًا، ولو لم تبعث الرسل! قلت: صحة قولهم تقتضي أن تحمل عموم الألفاظ على أن المراد بها الخصوص، فيكون التأويل: لئلا يكون للناس على الله حجة فيما لم يدل العقل على وجوبه ولا قبحه، كالشرعيات، وكذلك وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗاعلى ما لم يكن العقل دليلًا عليه حتى نبعث رسولًا". (ابن أبي الحديد، 1967، 9/85).

وأنكر غيرهم من القائلين بالتحسين والتقبيح ذلك، فيقول ابن تيمية رحمه الله تعليقًا على الذنوب التي ارتكبت مسبقًا قبل ورود الشرع: "وما فعلوه قبل مجيء الرسل كان سيئًا وقبيحًا وشرًا؛ لكن لا تقوم عليهم الحجة إلا بالرسول". (ابن تيمية، 11/ 676).

والحنفية أجمعوا على ثبوت التحسين والتقبيح العقليين موافقين في ذلك المعتزلة، لكنهم نفوا ما أثبتته المعتزلة من القول بوجوب الأصلح والإثابة والعقاب، ووجوب العوض. (ابن الهمام، د. ت، 94-95).

فما ذهب إليه المعتزلة من المؤاخذة قبل إرسال الرسل رده جمهور أهل السنة من الأشاعرة وأهل الحديث، بل والماتريدية أيضًا بالتفصيل السابق ذكره.

لكن رده كان من الأشاعرة بداية لعدم إمكان معرفة الحسن والقبح عقلًا، فلا مؤاخذة لعدم العلم به أساسًا مع عدم قبحه إن وقعت المؤاخذة، فلا يقبح في حق الله مقدور. لكن النصوص الشرعية جاءت لتبين المؤاخذة بعد ورود الشرع، فكان حسنًا.

أما من وافق المعتزلة في أصل التحسين والتقبيح العقلي أنها صفات ذاتية في بعض الأفعال ويمكن للعقل الاستقلال بمعرفتها بالنظر الصحيح، فهؤلاء وإن سوغوا إمكان المؤاخذة عقلًا، إلا أنهم أنكروا المؤاخذة قبل ورود الشرع لوضوح وتواتر الأدلة النقلية في هذا الصدد.

يقول ابن عاشور رحمه الله في تفسير قوله تعالى: رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗاﵞ ﵝالنِّسَاء: ﵕﵖﵑﵜ: "فَهَذِهِ الْآيَةُ مُلْجِئَةٌ جَمِيعَ الْفِرَقِ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ بِعْثَةَ الرُّسُلِ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا الْمُؤَاخَذَةُ بِالذُّنُوبِ". (ابن عاشور، 1984م، 6/40).

ونسبة القول بالتحسين والتقبيح العقلي إلى السلف ادعاه الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى، إذ يقول: "فنفي الحسن والقبح العقليين مطلقًا لم يقله أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، بل ما يؤخذ من كلام الأئمة والسلف في تعليل الأحكام وبيان حكمة الله في خلقه وأمره وبيان ما فيما أمر الله به من الحسن الذي يعلم بالعقل وما في مناهيه من القبح المعلوم بالعقل ينافي قول النفاة". (ابن تيمية، 2005، 465).

ويقول الشيخ (دراز، 1998، 27) عن القرآن: "لقد علمنا هذا الكتاب أن النفس الإنسانية قد تلقت في تكوينها الأولي الإحساس بالخير والشر: وَنَفۡسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا ٧ فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَاﵝالشَّمۡس : ﵗ - ﵘﵜ. وكما وهب الإنسان ملكة اللغة، والحواس الظاهرة، فإنه زُود أيضًا ببصيرة أخلاقية: بَلِ ٱلۡإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ بَصِيرَةٞ ١٤ وَلَوۡ أَلۡقَىٰ مَعَاذِيرَهُﵝالقِيَامَة : ﵔﵑ - ﵕﵑﵜ. ولقد هُدي الإنسان طريق الفضيلة والرذيلة: أَلَمۡ نَجۡعَل لَّهُۥ عَيۡنَيۡنِ ٨ وَلِسَانٗا وَشَفَتَيۡنِ ٩ وَهَدَيۡنَٰهُ ٱلنَّجۡدَيۡنِﵞ ﵝالبَلَد : ﵘ - ﵐﵑﵜ، حقًا إِنَّ ٱلنَّفۡسَ لَأَمَّارَةُۢ بِٱلسُّوٓءِﵞ ﵝيُوسُف : ﵓﵕﵜ، ولكن الإنسان قادر على أن يحكم أهواءه: وَأَمَّا مَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفۡسَ عَنِ ٱلۡهَوَىٰ ٤٠ فَإِنَّ ٱلۡجَنَّةَ هِيَ ٱلۡمَأۡوَىٰﵞ ﵝالنَّازِعَات : ﵐﵔ - ﵑﵔﵜ. وإذا لم يكن الناس كلهم يمارسون هذا التأثير على أنفسهم فإن منهم من يفعله بتوفيق الله له، وهو ما قرره رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «إذا أراد الله بعبد خيرًا جعل له واعظَا من نفسه، يأمره وينهاه». ففي الإنسان إذن قوة باطنة، لا تقتصر على نصحه وهدايته وحسب، بل إنها توجه إليه بالمعنى الصريح أوامر بأن يفعل، أو لا يفعل. فماذا تكون تلك السلطة الخاصة، التي تدعي السيطرة على قدراتنا الدنيا، إن لم تكن ذلك الجانب الوضيء من النفس، والذي هو العقل؟".

ويؤكد ابن تيمية على أن المصاديق هنا لا خلاف في كونها تتبدل وتتغيرفي كثير من الحالات، فهي بحاجة إلى حاكم خارجي، فينفي أن تكون دائمًا وأبدًا على حال واحدة من حيث الأمر بها في كثير من الحالات، كونها جزئيات تعود إلى الكليات المتفق عليها عقلًا، يقول رحمه الله: "ولم يعلموا أن اسم الحكمة مثل اسم العلم والعقل والمعرفة والدين والحق والعدل والخير والصدق والمحبة ونحو ذلك من الأسماء التي اتفق بنو آدم على استحسان مسمياتها ومدحها وإنما تنازعوا في تحقيق مناطها وتغيير مسمياتها". (ابن تيمية، 1426هـ، 2/339).

فما الحَكَم هنا الذي يمكن من خلاله البت فيها؟ يصرح ابن تيمية هنا بأن الشرع هو الذي يفصل في القضية عند التنازع، قال تعالى: يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًاﵞ ﵝالنِّسَاء: ﵙﵕﵜ. (ابن تيمية، 1426هـ، 2/340).

فالأخلاق عند ابن تيمية ليست ذات سمة واحدة، فهي لا كسبية بالمطلق ولا وهبية بالمطلق، بل يرى بأن مفهومي الفطرة والعقل السوي قادران على إدراك جوانب من الأخلاق وتقريرها، لكن الشرع حينما يأتي فإنه يكون مكملًا للفطرة ملجمًا للعقل في شططه بقواعد عامة تؤمِّن له عدم الانحراف عن الوجهة السوية للقيم الأخلاقية. (عفيفي، 1988، 61).

فيقول ابن تيمية في إشارة إلى ما بين العقل والفطرة من تناغم في تقرير المبادئ الخلقية أن تسمية العدل بالحسن، والظلم بالقبيح يدل على أن هذه المعاني محبوبة للفطرة تستلذها النفس وتفرح بها، وينتفع بها الجميع، وقدرة العقل على إدراكها جلي بيِّن. (ابن تيمية، 2005، 467).

ويقسِّم رحمه الله ما أُمر به وما نُهي عنه إلى أقسام ثلاث: مأمورات ومنهيات عقلية، وأخرى ملية، وثالثة شرعية.

1.                  فالعقلي يتضمن اتفاق البشر عليه سواء كانوا أصحاب شريعة ودين أم لم يكونوا.

2.                  أما ما يريده بالملي فهو الذي اتفقت عليها الأديان.

3.                  ثم الأخير هو الشرعي الذي تختص به أمة الإسلام. (ابن تيمية، 2005، 20/66).

فيكون القسم الأول هو من أوضح الأدلة على فطرية المفاهيم الأخلاقية الكلية عند البشر، بل على فطرية الكثير من المصاديق أيضًا بإلحاقها بمفاهيمها، فتجد البشر من مشارق الأرض ومغاربها يتفقون على حسن هذا وقبح ذاك، سواء كانوا أهل كتاب أم لم يكونوا، والوقوع دليل الإمكان كما هو مقرر، وكذلك يدل على أن هاتين الصفتين -الحسن والقبح- ذاتيتان في تلك الأفعال التي اتفق البشر عليها، وإلا لتعذر الاتفاق بداهة.

ويمكننا هنا أن نذكر دليلًا آخر من الأدلة التي تدعم هذا التوجه، وهو أن مطلقية القيم والمبادئ الأخلاقية تستخدم كدليل للمؤمنين بوجود إله ضد من ينكرون وجوده، بل عند البعض يعد دليل الأخلاق هو الدليل الوحيد على وجود إله -أو ضرورة الإيمان بوجود إله- كما عند (كانت)، إذ أن الممارسة الأخلاقية هي فعل عقلاني، ويقتضي ذلك عند (كانت) أن تتحقق العدالة، وطالما أنها لا تتحقق في حياتنا هذه فلا بد من حياة أخرى تتحقق فيها تلك العدالة، ولا بد أن من يحققها هو الإله، إذن فالإله موجود أو يجب أن يكون موجودًا لتنصلح الحياة الأخلاقية للإنسان. موافقًا بذلك قول الإمام الرازي رحمه الله في تفسيره، مع كون الإمام من النافين للتحسين والتقبيح العقلي! (الرازي، 2000، 30/206).

يقول (كانت، 2008، 217-218) بعد أن قرر ضرورة خلود النفس للوصول إلى تبرير وجود الأخلاق، كون الأبدية ضرورية لتحقيق العدالة، وهذا كان عنصره الأول في حجته الأخلاقية، فذكر أن ذلك "يقودنا إلى العنصر الثاني من الخير الأسمى، أي إلى السعادة المتناسبة مع تلك الأخلاقية، وذلك على شكل خالص من كل غرض، مثلما كان من قبل، وبعقل غير منحاز فحسب، وهذا يعني أنه عليه أن يقود على افتراض وجود علة كفوء لهذا المعلول، أي يجب أن يطالب بوجود الله بصفته مرتبطًا ارتباطًا ضروريًا بإمكانية الخير الأسمى (وهو موضوع إرادتنا المرتبط بالضرورة بالتشريع الأخلاقي للعقل المحض)". فالأخلاق هي من ضمن الأدوات التي يتخذها الباحثون في الأديان لتفسير الدين وبيان أهميته. (Chudek. et al, 2017, p2).

فإنه يوضح أن التغييرات في المعتقدات الأخلاقية ترتبط بالتغيرات في تصرفات الفرد. يشير هذا إلى أن المعتقدات الأخلاقية كافية لتحفيز العمل، ودعم المناهضة التحفيزية للإنسانية. ((Díaz, 2023,379. فمن خلال قوى العقل نكتسب مفاهيمنا الأخلاقية ونميزها. (Ablondi, 2012, 9)، وهي تكون الحافز الطبيعي للقيام بالأفعال والإحجام عنها.

نستنتج من دليل الأخلاق -سواء على الطريقة الإسلامية أو على الطريقة الكانتية- أن الإجماع الإنساني على وجود بعض القيم الأخلاقية المتفقة عليها عند البشر منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا -حتى عند غياب الدين الصحيح- لا يمكن تفسيره إلا إن كان هناك من هيأ الإنسان على الهيئة التي تمكنه من استيعاب هذه القيم وفهمها وقبولها بغض النظر عن دينه وبيئته ونشأته، فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاﵞ ﵝالرُّوم : ﵐﵓﵜ ، ولذلك تجد من ينكر وجود إله حينما يصطدم بهذه القيم الكونية إذ به لا يجد بدًا من إنكار مطلقيتها، ويرجعها إلى البيئة والمجتمع ومدى تقبل الناس لتلك القيم، فيحكم بالنسبية على القيم والأخلاق، ثم ما يلبث أن يخالف إيمانه هذا حينما ينتقد قيمًا وأخلاقًا تختلف مع قيمه وأخلاقه التي نشأ عليها ويسِمها بأسوأ السمات ويدعو إلى التخلص منها.

فاشتراك الناس في كثير من الفضائل والأخلاق والحض عليها كحب الصدق واحترام فاعله وكذلك الأمانة والعدل والتواضع وغيرها من الصفات، واستقباح أخلاق أخرى بإجماع الناس جميعًا كالظلم والكذب والتكبر والخيانة والغدر وغيرها، مع اختلاف المجتمعات والشرائع والأديان والأجناس، إن دل ذلك على شيء فإنما يدل دلالة واضحة على أنهم مفطورون عليها ومتأصلة فيهم، فهي أكثر حاسة إنسانية يتميز بها الإنسان عن الحيوانات. (الريسوني، 2016، 8-9). (فودة، 2016، 390-391).

نستخلص مما تقدم أن:

1. هنالك أخلاق مطلقة أجمع عليها البشر.

2. هذه الأخلاق لا بد من واضع لها.

3. النتيجة أن هذه الأخلاق إنما تم تسليكها في العقل الإنساني من قِبل ذلك الواضع -الخالق-، فتمت برمجته بحيث يدرك حسن بعض الأفعال وقبحها بمجرد تصورها.

4. الأشاعرة والتحسين والتقبيح الشرعي

كما هو معلوم فإن السادة الأشاعرة ومعهم ثلة من العلماء من المذاهب المختلفة قالوا بالتحسين والتقبيح الشرعي، والذي يشير إلى أن الحسن والقبح وصفان للفعل لا يكتسبان تلك القيمة إلا بعد ورود الشرع، فلا مكنة للعقل في معرفة حكم الله في حسن الأفعال وقبحها، لأن الأفعال أساسًا لا تمتلك قيمة ذاتية في نفسها، وتبدأ بامتلاك القيمة بمجرد الأمر الإلهي بحسنها وقبحها، فيكون العقل في هذه الحالة بحاجة إلى خبر من الإله جل وعلا عما يأمر به وينهى عنه ليحدد على إثره ما هو حسن أو قبيح.

إذن فهي نظرية بديلة لنظرية الأخلاق المعيارية التي حاول المعتزلة التأسيس لها ووافقهم من وافقهم فيها، فما يبني عليه السادة الأشاعرة نظريتهم هي أخلاق عواقبية تنفي أي قيمة معيارية كامنة في الأفعال، وإنما هي مكتسبة في مرحلة لاحقة بناء على أمور خارجة عنها.

يقول الشهرستاني متحدثًا عن الإمام أبي الحسن الأشعري رحمه الله: "والواجبات كلها سمعية، والعقل لا يوجب شيئًا ولا يقتضي تحسينًا ولا تقبيحًا، فمعرفة الله تعالى: بالعقل تحصل، وبالسمع: تجب، قال الله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗاﵞ ﵝالإِسۡرَاء : ﵕﵑﵜ. وكذلك شكر المنعم، وإثابة المطيع، وعقاب العاصي، يجب بالسمع دون العقل، ولا يجب على الله تعالى شيء ما بالعقل لا الصلاح، ولا أصلح، ولا اللطف". (الشهرستاني، 2011، 120).

فكما هو واضح بأنه حتى معرفة الله تعالى وطاعته لا تجب ولا مؤاخذة عليها إلا بخبر من الشرع بوجوبها، فلا قيمة ذاتية فيها تجعلها حسنة إلا أن الله جل وعلا أرادها وأمر بها. فالعقل لا يوجب شيئًا إلا لفائدة، والخالق لا غرض له ولا فائدة تعود عليه جل وعلا سواء كفر الناس جميعًا أو آمنوا، فيكون الأمر في حقه جل جلاله سواء. وكذلك فيما يتعلق بالعبد فإنه لا تُعلم فائدة تعود عليه في معرفته تعالى وطاعته، بل ذلك يعود عليه بالضرر بصرفه عما يحب ويشتهي، ولا ثواب ولا عقاب يترتب عليه قبل الشرع. (الغزالي، د. ت، 1/113).

"ومعنى حكمه بذلك ليس هو إخباره تعالى عن صفة هو في العقل عليها، وإنما معناه أمره لنا بمدح فاعل الحسن وتعظيمه وحسن الثناء عليه والعدول عن ذمه وانتقاصه، لا معنى لوصفه بأنه حسن أكثر من ذلك". (الباقلاني، 1998، 1/280).

ويُبين إمام الحرمين الجويني رحمه الله بأن الشرع هنا منشئ لصفتي الحسن والقبح وليس مجرد كاشف، فليس هنالك صفة في الفعل لتُدرك، بل أن الصفة إنما نشأت ووجدت بالأمر، وأن ما ورد عن بعض أئمة الأشاعرة -حسب الجويني- قد يوهم بوجود زيادة صفتي الحسن والقبح على الشرع، وهذا باطل، بل وجودهما إنما يبتدأ بالشرع، بالثناء على فاعل الحسن وذم مرتكب القبيح. (الجويني، 1950، 258-259).

لكن التقسيم الذي ذكره الإمام فخر الدين الرازي ووافقه عليه جل من جاء بعده من العلماء القائلين بقوله لا يتفق ومرادهم في نفي التحسين والتقبيح العقلي بإطلاق، إذ يكفي للمثبتين أن يثبتوا معنى واحدًا يمتلك قيمة ذاتية ثابتة في ذات الأمر غير مكتسبة قيمتها من الأمر الشرعي يدركه العقل ويجزم بحسنه أو قبحه، وعليه فلا يمكن أن تتضمن البدائل الأشعرية أي شيء له قيمة ذاتية، لكن تقسيم الإمام الرازي -لا سيما فيما يتعلق بالكمالات والنقائص- ينقض ما يريد الذهاب إليه تمامًا في نفي التحسين والتقبيح العقلي، مع عدم وضوح فيما يدخل فيه وما لا يدخل.

يقول العلامة الكلنبوي في حاشيته على شرح الجلال الدواني: "ثم المراد كونهما صفتي كمال ونقص في نفس الأمر، مع قطع النظر عن كونهما ملائمًا للغرض، ومنافرًا، وممدوحًا، ومذمومًا عند الله تعالى، وفي حكمه، فهما بهذين المعنيين من الصفات الحقيقية لا الإضافية، فعلى هذا يلزم أن يكون الحسن والقبيح بهذا المعنى حسنًا وقبيحًا عند الواجب تعالى، وعند جميع العقول، لأن ما في نفس الأمر لا يختلف بالنسبة إلى شخصين كما أن الجسم الواحد لا يكون أسود وأبيض بالنسبة إليهما". (الكلنبوي، 2017، 1/329).

ومما يستدل به أصحاب هذا القول على التحسين والتقبيح الشرعي هو عدم اشتراك العقلاء جميعهم في وصف فعل معين بأنه حسن أو قبيح، فلو كان الأمر بالعقل للزم أن لا يخالف في حسن فعل معين أو قبحه أحد من العقلاء، فما هو معلوم بالضرورة العقلية لا يجوز أن يختلف فيه الناس. (أبو يعلى، 1990، 4/1260).

ويستدل القاضي أبو يعلى في الصفحة ذاتها على كلامه بأن كثيرًا من العلماء خالف في التحسين والتقبيح أعقلي هو أم شرعي؟ وهذا دليل كافٍ على أنها ليست بديهية، وإلا لما اختلفنا، وعليه يبطل كونه عقليًا ولا يبقى إلا أن يكون شرعيًا.

وهذا استدلال في غير محل النزاع، إذ لم يقل القوم أن كل فعل بذاته يجب أن يكون بديهيًا، وكون صفته ذاتية وفي مكنة العقل إدراكها لا يقتضي بالضرورة أن يدركها، فالإمكان لا يدل على الوقوع، بل العكس هو الصحيح، وهو واقع. إذ تجد كثيرًا من النماذج التي يجتمع عليها البشر أجمعين على كونها قيم (كونية)، فكانت كافية لنقض القاعدة التي وضعها المخالف.

ويبدو أن التشكيك في كونية حسن قيمة مثل الصدق لم يعد ممكنًا، فكان هنالك تفسير آخر ذكره الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في المستصفى، إذ أرجعها إلى الحالة الاجتماعية والنشأة التي ينشأ عليها الإنسان منذ صباه. فمن محاسن الإمام الغزالي الكثيرة أن نبه إلى نقطة ذات أهمية في كتابه، وهي الدواعي النفسية التي دعت إلى القول بقول معين، وهي في حالتنا هذه القول بالتحسين والتقبيح العقلي، فيذكر الإمام أن القائلين بالتحسين والتقبيح الشرعي لا ينكرون بأن هنالك مشهورات اتفق البشر على حسنها، ولكن ذلك لا يقتضي حسنًا ذاتيًا، ولا يقتضي -من باب أولى وبطبيعة الحال- أن العقل قادر على إدراك حكم الله فيها يقينًا، بل الأمر راجعٌ إلى النشأة. يقول رحمه الله عن هذه المشهورات التي فرَّقها عن الأوليات الضرورية وعن الوهميات: "فإن هذه القضايا ليست أولية ولا وهمية، فإن الفطرة الأولى لا تقضي بها، بل إنما ينغرس قبولها في النفس بأسباب كثيرة تعرض من أول الصبا". (الغزالي، 1993، 39).

وحتى فيما يتعلق بالباري جل وعلا، فعدم تلبسه جل جلاله بالكذب ليس لكون الكذب قبيحًا في ذاته، لكن لكون التلبس بالكذب يستلزم ما ينافي مصلحة العباد، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن الله بشريعته قد جعله قبيحًا، لذا لا يمكن للباري أن يتصف بشيء حكم بقبحه. (البوطي، 1997، 152).

وذكر الشريف الجرجاني رحمه الله في شرحه على المواقف أن الحسن والقبح ليس معتبرًا قبل ورود الشرع كما هو متقرر لدى السادة الأشاعرة، بل أن القضية لو انقلبت وصار الحسن قبيحًا والقبيح حسنًا فهذا غير ممتنع. فكل ما نعرفه من القيم  كان يمكن أن يُعكس، فيكون حسنها قبيحًا وقبيحها حسنًا، ولا يكون ذلك قدحًا في الحكمة الإلهية. (الجرجاني، 1998، 8/202).

"والطبع يستحث على الحذر من الضرر، ومعنى كون الشيء واجباً أن في تركه ضرراً، ومعنى كون الشرع موجباً أنه معرف للضرر المتوقع، فإن العقل لا يهدي إلى التهدف للضرر بعد الموت عند اتباع الشهوات، فهذا معنى الشرع والعقل وتأثيرهما في تقدير الواجب، ولولا خوف العقاب على ترك ما أمر به لم يكن الوجوب ثابتاً، إذ لا معنى للواجب إلا ما يرتبط بتركه ضرر في الآخرة". (الغزالي، د. ت، 1/113).

أما الإمام الرازي رحمه الله فقد قال في آخر كتبه: "والمعتبر عندنا: أن تحسين العقل وتقبيحه بالنسبة إلى العباد معتبر، وأما بالنسبة إلى الله تعالى فهو باطل". (الرازي،1987، 3/289).

وهذا تطور عند أحد أكبر الرؤوس الأشعرية المتأخرة بعد أن طال الجدل والنقاش حول هذه القضية، فتجده فيما يتعلق بالعباد يقول بما قال به غيرهم من القائلين بالتحسين والتقبيح العقلي، إذ يضيف أدلته على التحسين والتقبيح العقلي في حق العباد كالآتي:

الأول: فقبل الشرع والنبوة فالعقلاء متفقون على أن مدح المحسن حسن، وذم المسيء سيء، فالإحسان إلى ذي حاجة يستلزم من المحسن إليه بصراحة العقول أن يمدح المحسن ويذكره بخير، والعكس بالعكس، فإن كان الأمر كذلك "علمنا أن هذا الحسن مقرر في عقولهم". (الرازي، 1987، 3/298-290)

الثاني: ويرى الإمام الرازي بأن العقل هو الذي يحكم بحسن اتباع الشرع وقبح مخالفته لتجنب العقاب، فإن كان معرفة حسن اتباع الشرع متوقف على الشرع فهذا يلزم منه التسلسل المحال عقلًا.

والثالث: لا بد للخروج من الدور والتسلسل أن نتجنب القول بأن كل مطلوب أو مكروه إنما هو عائد إلى غيره، بل لا بد أن يكون هنالك ما هو مطلوب لذاته ومكروه لذاته، وأنه بعد التأمل تبين أن ما هو مطلوب لذاته حقًا هما اللذة والسعادة، وما هو مكروه لذاته إنما هو الألم والغم، فثباته في محض معرفة عقلية، سواء كانت هنالك رسالة إلهية أو لا. وهذا في حق العباد لا في حق الباري جل وعلا -حسب الإمام الرازي-.  (الرازي، 1987، 3/290-298).

وما يفهم من كلام الإمام الرازي رحمه الله أنه يرى أن الإنسان مدفوع بالمصلحة المتقررة في العقل، فهو يرى أن حسن مدح المحسن وحسن ذم المسيء متقرر في العقول لكونه نافعًا، ويؤكد ذلك ما ذكره في النقطة الثانية، فإنه يرى بأن الإنسان إنما يفعل الفعل لإيمان متقرر في عقله بأن فيه المصلحة العاجلة أو الآجلة وهو حسن في ذاته، وهذا ما يمكن تسميته بالأخلاق العواقبية. إذ هي تعتمد على العواقب المترتبة على الفعل للحكم بحسن أو قبح فعل معين. ولكنها في حق العبد فحسب، وتستحيل -كما يقول الإمام الرازي- في حق الباري عز وجل. فـ"مفهوم الرازي للقيمة الأخلاقية لا يرجع -خلافًا للأشاعرة السابقين- إلى الوحي، ولكنه يرى أن التحسين والتقبيح من مدارك العقول. والأمر فعل ما، وإن كان صادرًا عن الله، لا يكون في نفسه سببًا في القيام بالفعل، فكذلك لا يمكن أن يكون أساسًا للواجبات. وإنما يحمل الإنسان على طاعة الأوامر الإلهية ما يبصره من المنافع والمضار في العاقبة، حين يرى أن الثواب والعقاب اللذين أرشده الوحي إلى ترتبهما على الطاعة والمعصية هما غاية ما يرجى من لذة وما يخشى من ألم، كمًا وكيفًا". (شميتكه، 2018، 688).

ويمكن أن يقال بأن الإمام الرازي قد خالف الأشعرية في نظرتهم لقضية التحسين والتقبيح وكوَّن مذهبًا جديدًا يجد له العقل محلًا في تقرير الحسن والقبح، إلا أن تركيز الإمام الرازي على المصالح والمفاسد والتي تحسُنُ وتقبح الأفعال لأجلها ينفي ذلك، إذ يبدو أن الإمام يحاول تفسير الأفعال كلها بالمصلحة، حتى الظلم الذي قد يدرج في القسم الثاني من تقسيمات الرازي رحمه الله والتي هي من جنس الكمال والنقص، فهو يفسره تفسيرًا يؤكد فيه أن القول بقبحه راجع إلى عواقبه السيئة على العالم، فهي نظرية عواقبية متكاملة الأركان تعتمد على المصلحة والمفسدة التي تحكم بعدم الحسن والقبح في ذات الأمر بل لأمر آخر خارج عنه إضافي، وهذا ينطبق على كل شيء حتى على العدل والظلم كمفهومين كليين. (الرازي، 1987، 3/298-290). ولا يبدو كأنه ارتداد عن الأشعرية التقليدية، على الأقل في أصل المسألة، لكن الإمام الرازي قد طور من حججه وابتكر في تقسيماته.

1.4. أدلة الأشاعرة القائلين بالتحسين والتقبيح الشرعي:

استدل الأشاعرة بأدلة عدة، من أشهرها كما ذكرها الإمام (التفتازاني، 1998، 284):

قوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗاﵞ ﵝالإِسۡرَاء : ﵕﵑﵜ. ووجه الاستدلال على ما يبدو هو أن الله تعالى طالما أنه لا يؤاخذ إلا بإرسال رسول، فلا بد أن إدراك الحسن والقبح قبل إرساله متعذر، فكان ذلك دليلًا من القرآن على التحسين والتقبيح الشرعي.

ورُدَّ بأن هذا إن كان ردًا على المعتزلة، فبلى، والماتريدية وابن تيمية وعموم من يقول بالتحسين والتقبيح العقلي عدا المعتزلة يوافقون أن المؤاخذة لا تكون إلا بعد إرسال الرسل لورود النص بذلك لا لضرورة عقلية. مع ملاحظة أن الماتريدية يرون بأن المؤاخذة تكون في الأصول فحسب، كضرورة الإيمان بالله جل وعلا حتى قبل إرسال الرسل، وكذلك الإيمان بالرسل وشكر المنعم، وهو الله تعالى كما ذكرنا في المباحث السابقة.

فلا تضاد بين عدم المؤاخذة وكون التحسين والتقبيح عقليًا، بل يبقى الفعل حسنًا أو قبيحًا في ذاته لكن المؤاخذة لا تكون إلا بعد إرسال الرسول كما قررنا سابقًا.

أما الأدلة العقلية:

1.   تفاوت التحسين والتقبيح على الفعل يدل على عدم ذاتيته، إذ لو كان ذاتيًا للزم أن لا يتغير وصفه بالحسن والقبح، فالقتل حدًا حسنٌ وظلمًا قبيح، مع أنه يبقى قتلًا، والكذب أو الصدق إن كان على سبيل الإنقاذ فحسن، وإن كان على سبيل الإهلاك فقبيح.

وكنا قد أشرنا إلى طرف من الرد على هذا الإيراد الأشعري على التحسين والتقبيح العقلي، نكرره بعبارة أخرى على ما ذكره الإمام التفتازاني من اعتراض، فالقتل هو سلب للحياة، معلوم قبحه عقلًا كمفهوم كلي مطلق، لكن تعلقه بمصاديق ومقادير، وطريقة تطبيقه في أزمان وأحوال مختلفة يغير حسنه وقبحه لا لكونه غير ذاتي، بل لورود الطارئ المغير لحقيقته. فالقتل يبقى قبيحًا حين القصاص، لكنه يبقى أقل قبحًا من الضرر الذي سيخلفه وراءه من عدم الثقة بتطبيق العدالة، فكان ترجيح مصلحة المجتمع مقدمًا على مصلحة الفرد الذي أخطأ واستحق العقوبة. وإن قلنا بأن الكذب على سبيل الإنقاذ حسن فهذا غير مسلم به، إذ أنه يبقى على قبحه لكنه لا يؤاخذ عليه قبل الشرع، إذ مصلحة إنقاذ شخص في حيثيات معينة أكبر من الضرر الذي ينتج عن الكذب، وهذا معلوم عقلًا قبل أن يرد شرع بذلك. بمعنى أن الموازنة هي بين ضررين، ضرر الكذب وضرر إهلاك شخص، فالعقل يحكم الأخذ بالأقل ضررًا في هذه الحالة وهو الكذب لمصلحة إنقاذ شخص من الهلاك.

2.   لو أن صفتي الحسن والقبح ذاتيتان لما صح اجتماعهما في الفعل الواحد، كأن يقول أحدهم (لأكذبن غدًا).

وهذا ما يسمى بمغالطة الجذر الأصم،[1] والذي رفض توظيفها في قضيتنا هذه كبار أئمة الأشاعرة، وهذا الاعتراض يرد أيضًا على من قال بالتحسين والتقبيح الشرعي، فما يفعل شرعًا من قال: لأكذبن غدًا؟ فما يقال في هذه يقال في تلك. فإن كان يفقد موضوعيته وذاتيته عند القائلين بالتحسين والتقبيح العقلي فالأمر نفسه عند القائلين بالضد، إذ لا موضوعية له باقية، إلا إن قلنا بأن عليه مراعاة المصلحة والمفسدة، والخروج بأقل ضرر من القضية، وهو بهذا ينطبق على القاعدة العقلية القاضية بتقديم المصلحة على المفسدة، والمفسدة على الأشد فسادًا. كما أن الوفاء بالوعد ليس حسنًا في جميع حالاته، فهذا تقويل للمثبتين بالتحسين والتقبيح العقلي بما لم يقولوه، فإن قال أحدهم لأقتلن غدًا شخصًا بريئًا، فمجمع عليه بأن عدم الإيفاء بالوعد هنا سيؤدي إلى قبح أكبر من قبح الإخلاف بالوعد، فتكون مخيرًا بين ما هو قبيح وبين ما هو أقبح منه، فالعقل يقضي باختيار أخف الضررين، فيكون إخلاف الوعد في هذه الحالة والحالات المشابهة حسنة بهذا الاعتبار، أي اختيار اخف الضررين مع بقاء قبح الإخلاف في الوعد على حاله.

3.   عدم استقلال العبد بالفعل، فلا مدح ولا ذم من الله جل وعلا إلا على ما يستقل العبد به من أفعال.

ولازم قول الإمام أن العبد طالما ليس بخالق لفعله بالكلية، بل ليس له دور في فعله سوى الاكتساب، فهو غير مؤاخذ على ما يظهر أنه يبدر منه، وأن العبد لا بد من أن يكون موجدًا خالقًا لفعله على القول المعتزلي ليؤاخذ على فعله وإلا فلا. وهذا غريب، إذ أن هذا يستلزم عدم مؤاخذته حتى بعد ورود الشرع، فالعبد لم يزل غير مستقل بالفعل، وعليه فلا معنى لمؤاخذته.

ويضيف الإمام الرازي حججًا أخرى على عدم إثبات قاعدة التحسين والتقبيح العقلي في حق الله سبحانه وتعالى، إذ يذكر:

4.   أن الله تعالى لا يقع في حقه النفع والضرر، فإن كان الحسن ما كان نافعًا والقبيح ما كان ضارًا، وعلمنا استحالة ذلك في حق الباري عز وجل لغناه المطلق، تبين لنا أن القول بذلك في حق الباري جل وعلا محال. (الرازي، 1987، 3/290).

ويُرَدُ ذلك ببيان أن الغرض هنا هو النفع والضر والمصلحة والمفسدة لا لكونه جل وعلا ينتفع به، فهو غني لا ينتفع بشيء ولا يمكن لشيء أن يضره، هذا متفق عليه، لكن من مقتضيات كماله أن يفعل لحكمة لا لمجرد الإرادة والقدرة، فهذا الغرض ليس نافعًا للفاعل، بل هذا الغرض هو الداعي إلى القيام بالفعل، والفرق واضح. فهذا راجع إلى ما يناسب الباري جل وعلا من كمال مطلق، لا أنه جل وعلا يستكمل نقصًا به تعالى الله عن ذلك. (ابن عاشور، 1984، 1/380).

5.   أن الله تعالى -بالاتفاق- منعم على عبيده، لكن إنعامه لا يكون بمقاييس الحسن والقبح العقلي، إذ أنه خلق الحاجة في العبد، ثم لما رزقه بما يملأ تلك الحاجة قلنا إنه أنعم عليه! فهذا كمن "يغصب من إنسان دينارًا ثم يعطيه دينارًا آخر، وإنه على هذا التقدير لا يكون ذلك إنعامًا، بل يكون محض العبث، فيثبت أن القبح العقلي لو كان معتبرًا في حق الله تعالى، لوجب القطع بأنه تعالى غير منعم على أحد من عبيده". (الرازي، 1987، 3/292).

وفي الحقيقة فإن قول الإمام الرازي قد يُفهم منه أن العبد لا بد أن يكون كاملًا مستغنيًا عن الله، وهذا لا يتفق ومفهوم العبودية إطلاقًا، فمن لوازم الألوهية القدرة المطلقة على الإنعام، ولا بد من محل يقوم به المعنى، وهذا المحل إن لم يكن بحاجة إلى من ينعم عليه بطُل مفهوم الإنعام بالكلية، وتم تعطيل صفة من صفات الباري جل وعلا وهو الإنعام. فعلى من ينعم إن كانت المخلوقات كلها غير محتاجة إليه جل وعلا؟! فالعبد بحد ذاته من لوازم ذاته أنه محتاج منذ اللحظة الأولى التي وجد فيها، إذ لو كان مستغنيًا لكان قديمًا، ولو كان قديمًا لكان إلهًا، وكلام الإمام الرازي ينطبق على كل شيء يخص المخلوقات، بدءً بإيجادها، وليس انتهاءً بتوفير ضروريات بقاءها. وهذا كله مدرك عقلًا قبل أن يخبر به الشرع.

فإن قيل: ولِمَ أوجده أساسًا ليعاني من هذا النقص؟ وهو كان معدومًا لا حاجة له، فلما أوجده أحوجه، والحاجة ضرر.

أجيب عنه بأن الإيجاد أساسًا هو إنعام قبل كل شيء، فالوجود أفضل من العدم من حيث المبدأ، ثم كان الوجود مصحوبًا بالتخيير بين طريق الخير أو سلوك طريق الشر، وأعطي الإنسان ما يلزم لمقاومة شهواته واختيار الطريق المؤدي إليه جل وعلا، فزال القبح هنا، وعاد اللوم على العبد الذي اختار الطريق الخاطئ مع وجود ما يرشده إلى الطريق الصحيح. كما أن الأمر برمته واختيار حمل أمانة الاختيار والحرية كانت موكلة للإنسان، فاختارها بنص الكتاب الكريم، إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗاﵞ ﵝالأَحۡزَاب : ﵒﵗﵜ فكان اختيار حمل الأمانة هو اختيار الإنسان بنص الآية، فكان الإنعام عليه بأن جعله مخيرًا عاقلًا، مع علمه جل وعلا أن من البشر من سيختار طريق الضلالة، لكن ليس في العقل ما يحكم بعبث خلق تلك الفئة الضالة، بل يحكم بحسن إعطاء فرصة للبشر ليختاروا، ويحكم العقل بعبثية أن يخلق من يعلم أنهم سيختارون الطريق الصواب فقط، وبالتالي فلا يكون ذلك تخييرًا بين خير وشر، بل هو أشبه بالجبر بأن يقول للبشر أنني ما خلقت بشرًا يعصيني، فشابهنا الملائكة من هذا المنطلق. وأكرر أن ذلك يكون من اللوازم المترتبة على كلام الإمام الرازي رحمه الله لنفيه أن يكون إنعام الباري جل وعلا مفهومًا عقلًا، بل العقل يقضي بعبثيتها، وطالما أننا قررنا جميعًا مع ذلك -كما يقول الإمام الرازي رحمه الله- أن الله تعالى منعم؛ فهذا يعني بأن الله تعالى لا ينطبق عليه فهمنا للحسن والقبح، فعلمنا بأنه منعم، وأن الإنعام صفة له جل جلاله فقط من خلال الخبر لا من خلال العقل -بحسب الإمام الرازي رحمه الله-!

وما يدعيه البحث هنا أنه تعالى طالما أنه خالق لعباده، فمن ضمن ضرورات عبوديتهم حاجة العبد إلى إلهه، فيعبده ليحصل على مراده، فإنه لا يتحقق مفهوم الحاجة إلا بوجود نقص في العبد يقتضي منعمًا، وهو الله جل جلاله، فيتحقق محل الإنعام، مع توفير الخيار له بسلوك الطريق الذي يختاره وتحمُّل تبعات اختياره.

أما لفظة (العبث) المذكورة في قول الإمام الفخر الرازي فيستلزم أن لها حقيقة موضوعية منفصلة عن الإرادة الإلهية، فالله سبحانه وتعالى على هذا القول لا يقبح في حقه مقدور، فكيف يكون عبثًا إن أخذ منه دينارًا وأعطاه دينارًا؟! فلا يصح هذا القول إلا إن كان العبث قبيحًا في ذاته لا يأتيه الإله لكونه قبيحًا في ذاته.

2.4. اللوازم المترتبة على القول بالتحسين والتقبيح الشرعي:

يلزم من نفي التحسين والتقبيح العقلي ما يأتي وأزيد:

1.   إن الله لا يقبح منه -عقلًا- أن يورث الخطيئة، ويضحي بمن لم يذنب للتكفير عن خطيئة لم يرتكبها، فيمكن أن نتحمل وزر ما فعله آباؤنا حتى وإن كنا كارهين لفعلهم ذاك. فلا يقبح منه جل وعلا -عقلًا- التكليف بما لا يطاق. وهذا ما صرح به الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله، بل أكد وقوعه، إذ أنه جل وعلا ذكر في عدة آيات أن هنالك أقوامًا لا يؤمنون البتة، "فلو صدر منه الإيمان لزم انقلاب خبر الله (الذي هو) الصدق كذبًا، والكذب على الله محال، والمفضي إلى المحال محال، فصدور الإيمان منه محال، فالتكليف به: تكليف بالمحال" (الرازي، 1987، 3/305). وقد وقع، إذن التكليف بما لا يطاق واقع، وبالتالي فهو حسن! وهذا القول ليس شبيهًا بالجبر، بل هو عين الجبر، بل تجد الإمام رحمه الله يصرح بذلك في كتاب النبوات وما يتعلق بها في مؤلفه هذا وهو يسرد الأدلة على أن الجبر حق، إذ يقول بعد أن سرد حججه رحمه الله: "فيثبت بهذه الوجوه الخمسة عشر: أن القول بالجبر حق". (الرازي، 1987، 8/19). وكان قد صرح بذلك في المحصول أيضًا. (الرازي، 1997، 2/225) وفي تفسيره (الرازي، 2000، 15/53).

وفي هذا القول من الفساد ما وضوحه وتناقضه مع صريح النقل والعقل يغني عن الإتيان بما ينقضه، بل أن الإمام الرازي بهذا يكون مخالفًا للكسب الأشعري مع كونه من كبار السادة الأشاعرة رحمهم الله.

2.   لا يقبح منه تعالى -عقلًا- أن يدخلنا النار جميعًا لا لشيء سوى أنه يريد ذلك، طائعنا وعاصينا، نبينا ومتبوعنا. بل إن عكس ذلك فلا ضير، بأن يدخل موسى عليه السلام النار وفرعون الجنة، فلا يقبح ذلك بحقه حتى وإن وعد بأن يفعل العكس ثم تراجع لا لغرض ولا لهدف. بل له أن يثيب ويعاقب على الأفعال الجبلية الاضطرارية ولا يقبح ذلك في حقه. يقول الإمام الغزالي رحمه الله ردًا على المعتزلة ومن وافقهم: "أن لله عز وجل إيلام الخلق وتعذيبهم من غير جرم سابق ومن غير ثواب لاحق خلافاً للمعتزلة، لأنه متصرف في ملكه، ولا يتصور أن يعدو تصرفه ملكه، والظلم هو عبارة عن التصرف في ملك الغير بغير إذنه، وهو محال على الله تعالى". (الغزالي، د. ت، 1/112).

ويَرِد على كلام الإمام الغزالي رحمه الله بعض الإيرادات، منها:

أولًا: لماذا يحاول الإمام الغزالي أن يبرر أساسًا التعذيب والإيلام بلا جرم سابق في حقه تعالى لولا أن ذلك مستقر قبحه في العقل والوجدان!

ثانيًا: هل تعريف الظلم بأنه "التصرف في ملك الغير" مستفاد من الشرع أو أنه معلوم بالضرورة العقلية؟! فإن كان الأول فلن يستقيم الأمر، لأن التبرير المقترح هنا عقلي أساسًا لا شرعي، وإن كان الثاني فهو المطلوب، فكان دليلًا على ذاتية صفة القبح فيه، ولم يكتسب هذه الصفة بأمره تعالى، فلم يكن قبيحًا في حقه لأنه ملكه، فإن لم يكن ملكه -بافتراض عقلي محض- اقتضى ذلك قبحه. "إذ لو كان حسنه وقبحه بمجرد الأمر والنهي لم يتعرض في إثبات ذلك ‌لغير ‌الأمر ‌والنهي فحسب". (ابن القيم، 1432، 2/965).

3.   لا يقبح منه تعالى -عقلًا- أن يرسل المعجزات على يد مدعٍ للنبوة كذاب، فخداعه هذا لا يعد قبيحًا، فكان ذلك مصادمًا حتى للكوجيتو الديكارتي، إذ ينبني على أساس أن الله تعالى بحكم كماله لا يمكن أن يخدع، لكون الخداع صفة قبح حتى وإن صدرت عن الإله مع استحالتها.

4.   لا يقبح منه تعالى أن يجعل الإنسان يظن ما ليس بضروري ضروريًا، بأن يجعل على سبيل المثال لا الحصر قانون السببية من الضرورات العقلية وهو ليس كذلك، فيكون التشكيك بالتحسين والتقبيح العقلي تشكيك في المبادئ العقلية الضرورية.

5.   لا يقبح منه تعالى -عقلًا- أن يخلق الشر المحض، وهو الممتنع عقلًا عند الطوائف جميعها لوضوح عبثه، وهو قول يستبطن مسلمة أنه جل وعلا يخلق لغرض وهدف معين وليس لمجرد الإرادة.

يتبين للناظر هنا أن هذا القول يجتر من ورائه إشكالات عميقة، لا تطعن في الرسالة فحسب، بل تطعن في قضايا كنا نظنها مبادئ عقلية ضرورية، لكنها لا تبقى كذلك بعد أن نشك في أن عقولنا إنما بُرمِجت على أمور يمكن أن تكون خاطئة، دون أن يَقبُح ذلك في حق من برمجها بهذه الطريقة. وهذا مصداق قول الإمام الرازي رحمه الله: "من مذهبنا أن أحكام الله تعالى وأفعاله لا تعلل بالأغراض، فله بحكم المالكية أن يوجب ما شاء على من شاء من غير فائدة ومنفعة أصلًا". (الرازي، 1997، 156).

3.4. الاعتراضات على القول بالتحسين والتقبيح العقلي:

يمكن إضافة اعتراضات أخرى للسادة الأشاعرة على القائلين بالتحسين والتقبيح العقلي فضلًا عما ذُكِر، ومن أبرزها:

أولًا: هنالك اعتراض يبدو محكمًا من السادة الأشاعرة على مخالفيهم يتلخص كالآتي: يدعي الملاحدة بأن المبادئ الأخلاقية يمكن معرفتها بالعقل، فيمكن بالعقل أن يعرف قبح الكذب والظلم والاعتداء والسرقة، وحسن الصدق والعدل والأمانة، وبالتالي فلا حاجة لنا لوجود إله ولا شرع ودين ليخبرنا بما هو حسن أو قبيح. فإن كان في العقل غَناء في وضع المنظومة الأخلاقية المناسبة فما حاجتنا إلى الأديان والإيمان بوجود إله؟!

وهذا حق خُلِطَ بباطل، فأما العقل فإنه يمكنه معرفة الكليات الأخلاقية بلا شك، لكن ما لم يُبيِّنه الملحد لنا هو: كيف عرفها العقل وأيقن بها؟! فمع إقرارنا أنها معانٍ ميتافيزيقية لا مادية كان لا بد من أن تكون هنالك قوة جعلت هذا العقل يدرك هذه المعاني، فهذه الحجة تتصادم مع أصولهم المنكرة لوجود كل ما هو ميتافيزيقي. فإن الكائنات -حسب المنظومة الإلحادية- إنما نشأت إثر تلاطم أعمى للذرات، وكل ما ينشأ منها إنما هو نشوء عشوائي بمحض الصدفة! فكيف تنشأ من الصدفة أخلاق موضوعية؟! فهذا يجعل الملحد بمنظومته المهترئة خارج المعادلة تمامًا كونه لا يؤمن بأي شيء ميتافيزيقي، وكل أهل الأديان بفرقهم ومذاهبهم يؤمنون بميتافيزيقية الأخلاق، "فإذا كان عالمنا هو نتاج قوى لا أخلاقية، وإذا كان الإنسان ببساطة عبارة عن حطام كوني منتشر على شواطئ الزمن، فإن الأخلاق (بما فيها السخاء والإيثار اللذان يصبو إليهما داوكينز)، بمنتهى البساطة، لا وجود لها. فلا يمكن أن يكون هناك شيء صالح وشيء شرير، ويكون الخير والشر مفهومين خاليين من المعنى، وأي إنسان يصدر عندئذ حكمًا أخلاقيًا، لا يسكن على جبل أخلاقي عالٍ، بل في سحاب أرض الوقواق". (أندروز، 2014، 270).

ويرى المسيري بأن البحث عن القيم الأخلاقية والتأكيد عليها في الإنسانوية إنما هو نابع من رغبة في تجاوز المادي والآني، بل هو بحث عن المقدس، فإن القيم الإنسانية التي يتشبثون بها ليس لها أساس مادي. (المسيري، 2002، 1/189).

وبطريقة وليم لين كريغ فإننا لا نقول بضرورة الإيمان بالإله كأساس للتخلق بالأخلاق الحسنة، بل نقول بأن الأخلاق الحسنة لا تملك أساسًا موضوعيًا إن لم يكن هنالك إله، بغض النظر عن إيماننا به أو إنكارنا له، فإن كان ثمة أخلاق موضوعية يحاول الملحد التحاكم إليها فلا بد من أن يكون هناك إله لمنح شرعية وموضوعية لهذه الأخلاق، وإلا فإن التخبط في النسبية والذاتية هو المصير الحتمي للأخلاق التطورية. (كريغ، د. ت، 5، 14).

ويرد القاضي عبد الجبار رحمه الله على ضرورة بعث الرسل حتى وإن كان في العقل الاستطاعة في الكشف عن بعض أوجه الحسن والقبح، فيقول في شرح الأصول الخمسة: "وهو أن تعلم أن الأفعال ما من شيء منها إلا ويجوز أن يقع على وجه فيحسن، وعلى خلاف ذلك الوجه فيقبح، وأما أن نحكم على فعل من الأفعال بالقبح والحسن بمجرده، فلا"، ويضيف: "أن وجوب المصلحة وقبح المفسدة متقرران في العقل، إلا أنَّا لما لم يمكنا أن نعلم عقلًا أن هذا الفعل مصلحة وذلك مفسدة، بعث الله تعالى إلينا الرسل ليعرفونا ذلك من حال هذه الأفعال، فيكونوا قد جاؤوا بتقرير ما قد ركبه الله تعالى في عقولنا، وتفصيل ما قد تقرر فيها". (عبد الجبار، 1996، 564-565).

إذن فهنالك خلط بين القيم الأخلاقية المطلقة وبين مصاديقها التي يمكن أن تختلف باختلاف الأحوال والأزمنة، فالأمم والشعوب قد تختلف في المصاديق والمقادير والتطبيقات في أحوال وأزمنة مختلفة، لكنهم لا يختلفون في أن هنالك قيمًا أخلاقية مطلقة لا تتبدل ولا تتغير. "وربما كان الأصل في هذا الخلاف المستمر بين فلاسفة الأخلاق حول المبادئ الأخلاقية وهل هي نسبية أو مطلقة يوجد خلط مستمر في أذهان الكثيرين منهم بين (مبادئ الأخلاق) من جهة و(أساليب السلوك) من جهة أخرى، مما أدى إلى عجز بعض منهم عن التمييز بين (القواعد النسبية المتغيرة) و(المبادئ القصوى الثابتة)". (زكريا، 1967، 15). لذا لا يُحتج بالتغير في المصاديق النسبية على المبادئ المطلقة، فتكون مدخلًا للطعن فيها ووضعها في خانة النسبية.

وهذا ما يوضحه الشيخ سعيد فودة إذ يقول: "ولا ينكر وجود بعض الاختلافات في أحكام مجموعات البشر تجاه بعض الأفعال الجزئية، ولكنهم يكادون يتفقون أو هم كذلك في الأصول الكلية للخلق، واختلافهم ذاك لا يؤثر في وجود أصل الملكة... فيمكن أن يقال بأن الاختلاف في ماصدق الفعل: هل هو حسن أو لا، وهذا لا يستلزم إبطال ثبوت الملكة على التفريق بين الحسن والقبيح مطلقًا، حتى إذا تم تنبيههم إلى خطأ حكمهم الجزئي تنبهوا لذلك ونفروا منه... وكون الأحكام الأخلاقية قابلة للتغير والتقدم عند البشر، لا يزيل أصل الملكة، فهذا مشابه لتطور ملكة التعقل في البشر، ولا أحد يقول بنفيها لذلك السبب". (فودة، 2016، 377).

والذاتية المرادة في قول القائلين بالتحسين والتقبيح العقلي إنما المراد بها الثبوت في نفس الأمر وليس بالضرورة أن يكون ذاتيًا بالمعنى الأخص، فهو أعم، ويشمل الذاتي والاعتباري والوصفي. (التفتازاني، 2004، 2/37).

كما أن الحكم على أفعال الله تعالى وأوامره بأنها نافعة كلها ولا ضرر فيها، وأن كل ما أمر به تعالى إنما هو حسن فهذا قفز حكمي، بمعنى من الذي حدد أن ما هو نافع حسن وما هو ضار قبيح؟! ويبدو أن السادة الأشاعرة هنا يقعون فيما فروا منه بداية، إذ إن إنكارهم منذ الوهلة الأولى لذاتية صفتي الحسن والقبح في الأفعال كان الهدف منه تنزيهه تعالى من الوقوع في خانة (الجبر) حسب فهمهم، إذ إن العقل حتى وإن قرر بأن الفعل الفلاني حسن وجزم بذلك فلا يعني ذلك بأن الله تعالى إن خالف هذا التقرير في فعل من الأفعال عُدَّ ذلك نقصًا في حقه جل وعلا! ثم هم يقررون بأن أفعال الله تعالى وأوامره لا بد من أن تتعلق بما هو نافع وتتجنب ما هو ضار، ومنها قاعدة أنه تعالى لم يخلق الشر المحض، ولا بد أنه جل وعلا لم يفعل ذلك لكونه قبيحًا في ذاته، وإلا فإنه لو فعل لما كان شرًا محضًا وبالتالي فليس قبيحًا حسب السرد الأشعري.

إذن ما كان محاولة لحل إشكالية الجبر لم يعد ذا نفع بعد أن انتهوا إلى النتيجة المذكورة، ويبدو للباحث بأنه مأزق لا داعي للتسليم به، فالله جل وعلا من صفاته أنه مختار، ولا بد لتحقق تلك الصفة أن يختار بين أشياء متغايرة، وهذه الاختيارات لا بد من أن تتفق وصفة الحكمة في ذاته العلية لئلا يكون عبثًا يتنزه عنه جل وعلا، فإن كان فعله وأمره سبحانه لا لغرض ولا لهدف معين، كان اختيار أي واحدة من هذه الاختيارات ترجيحًا بلا مرجح، وضربًا في عماية يتنزه منه الباري جل وعلا، ولوجود نسق منطقي بين الأفعال وأن كل واحدة منها تؤدي إلى الأخرى ومسببة لها كان ذلك أدعى أن يكون الأمر الإلهي متوجهًا لما هو نافع، متجنبًا ما هو ضار.

وهذا متقرر عند الفقهاء، فاستقراء النصوص الشرعية والأوامر والنواهي الواردة فيها تجدها كلها تابعة لمصلحة خالصة أو راجحة. يقول الإمام القرافي رحمه الله: "فإن أوامر الشرع تتبع المصالح الخالصة أو الراجحة ونواهيه تتبع المفاسد الخالصة أو الراجحة". (القرافي، 1998، 2/226)

"إذ لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع أن تحصيل المصالح المحضة، ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن". (العز، 1991، 1/5). ويضيف بعده بصفحات: "فكل مأمور به ففيه مصلحة الدارين أو إحداهما، وكل منهي عنه ففيه مفسدة فيهما أو في إحداهما". (العز، 1991، 1/8).

وهنا يبدو أن هنالك بعضًا من التناقض، ففي علم الكلام تجد السادة الأشاعرة ينكرون الأغراض والأهداف في أمر الباري جل وعلا، ويمكن أن يفعل لا لفائدة ولا لغرض ولا لمنفعة كما قرر ذلك الفخر الرازي رحمه الله، (الرازي، 1997، 156). ثم حينما ننتقل إلى علم أصول الفقه تجد أن هنالك فطاحل في علم المقاصد هم من السادة الأشاعرة!! كيف والله جل وعلا يمكن أن يفعل لا لغرض ولا لمنفعة أو مصلحة؟ وعلام نبحث عن مقصد للتكليفات وقد يكون في الأساس لا مزية فيها سوى أنها أمر للباري جل وعلا؟! فنجد أن البحث النظري يصطدم بالواقع العملي الذي يؤكد في كل أمر إلهي علة، بل حتى في العبادات يمكنك أن تجد فيها عللًا وأهدافًا وإن لم تكن مطردة ولا يمكن القياس عليها، ولا أقل أن نقول أنها إنما وضعت للتعبد، لكنها تبقى معللة عند الباري جل وعلا، سواء علمناها أم لا، وتبقى تابعة للأصل الذي لا يمكن الإخلال به دون الإخلال بمفهوم الكمال الإلهي، وهي أن الله تعالى لا يفعل شيئًا عبثًا، وله في كل أمر وفعل حكمة، فإن كان الفعل لا لمنفعة ولا لهدف ليس عبثًا ولعبًا فلا بد أننا بحاجة إلى تعريف جديد لهذه المفردة،  فـ"لو لم يفعل لغرض أصلًا يلزم العبث".(صدر الشريعة، 1996، 2/135).

وللإمام الشاطبي في موافقاته ردُّ على قول الإمام الرازي رحمهما الله وفيه نوع من الشدة، إذ أن الإمام الرازي رحمه الله قد اضطر إلى مخالفة قاعدته في نفي تعليل أفعال الله تعالى في العقائد حينما أثبت العلل في الأحكام الشرعية في علم الأصول، فعلل ذلك بأن المقصود بالعلل هنا هي علامات تدل على الأحكام خاصة، وهذا ما رده الإمام الشاطبي بشدة، فقال: " والمعتمد إنما هو أنَّا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره". (الشاطبي، 2007، 2/5).

والقول بأن العبادات غير معللة قول غير دقيق، وهو ما قد يُفهم من كلام الإمام الشاطبي رحمه الله، لكنه بيَّن بنفسه في موضع آخر أنها -أي العبادات- يغلب عليها عدم التعليل في تفاصيلها، لكنها معللة في جملتها. (الشاطبي، 2007، 1/139)، ومما يؤكد أن العبادات معللة أيضًا ما ورد من نصوص قرآنية وشواهد نبوية، استشهد (الريسوني، 1995، 212) بجملة منها، كقوله تعالى: وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِيٓﵞ ﵝطه : ﵔﵑﵜ، وقوله تعالى في الصيام: يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵓﵘﵑﵜ وفي الحج: لِّيَشۡهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمۡ وَيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِﵞ ﵝالحَج : ﵘﵒﵜ وفي الزكاة: خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَاﵞ ﵝالتَّوۡبَة : ﵓﵐﵑﵜ. ونضيف: فكيف أن أحكام الله وأوامره لا تعلل والنصوص الشرعية زاخرة بما يؤكد العكس؟! عدا الأدلة العقلية التي تؤكد ضرورة ذلك لتتسق مع صفة الحكمة المطلقة للذات الإلهية. "وإذًا فمجال العبادات ليس مجالًا مغلقًا محظورًا عن التعليل المصلحي، بل للتعليل فيه مدخل أو مداخل". (الريسوني، 1995، 214).

بل ونجد أن حجة الإسلام الغزالي رحمه الله قد ذكر بنفسه أن في أدق مظاهر العبادات خفاءً هنالك علل قد يستأثر الباري جل وعلا بعلمها فيه نوع لطف ومصلحة للعباد، كعدد الركعات في الصلوات المفروضة وغيرها. (الغزالي، 1971، 204). مع تأكيده مخالفة المعتزلة في مسألة وجوب الصلاح والأصلح، وهو حق.

ثم نجد إمام الحرمين يؤكد على صعوبة إيجاد ما لا يعقل نهائيًا من الأوامر المنصوص عليها، إذ يقول في باب تقاسيم العلل والأصول في ضربه الخامس: "ما لا يلوح فيه للمستنبط معنى أصلًا ولا مقتضى من ضرورة أو حاجة أو استحثاث على مكرمة، وهذا يندر ‌تصويره جدًا". (الجويني، 1997، 2/80). كما يؤكد الإمام ابن قدامة على ذلك أيضًا. (ابن قدامة، 2002، 2/245). و(القرطبي، 1964، 63-64) في تفسيره. ويقول الإمام الآمدي رحمه الله: "وذلك لأن الأحكام إنما شرعت لمقاصد العباد، أما أنها مشروعة لمقاصد وحكم فيدل عليه الإجماع والمعقول". (الآمدي، 1402هـ، 3/285). ونصوص الأئمة في ذلك مستفيضة لا تحصر لكثرتها، وقد تبين المراد.

واختصارًا للأمر فإن القول بأن الله تعالى إن فعل لغرض فهذا يعني أنه بحاجة لاستكمال نقص حاشاه، فهذا غير لازم، ويرد عليه العلامة ابن عاشور رحمه الله في تفسيره مشددًا في ذلك ورادًا على الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله فيما نقله وتبناه عن السادة الأشاعرة مما نقلنا طرفًا منه في سابق الصفحات: "والحاصل أن الدليل الذي استدلوا به يشتمل ‌على ‌مقدمتين ‌سفسطائيتين، أولاهما: قولهم إنه لو كان الفعل لغرض للزم أن يكون الفاعل مستكملًا به، وهذا سفسطة شبه فيها الغرض النافع للفاعل بالغرض بمعنى الداعي إلى الفعل والراجع إلى ما يناسبه من الكمال لا توقف كماله عليه. الثانية قولهم إذا كان الفعل لغرض كان الغرض سببًا يقتضي عجز الفاعل وهذا شبه فيه السبب الذي هو بمعنى الباعث بالسبب الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم وكلاهما يطلق عليه سبب". (ابن عاشور، 1984، 1/380).

ثانيًا: إن مما ينفي بديهية القيم الأخلاقية هي أنها تتفاوت في وضوحها كوضوح المبادئ العقلية الضرورية، فتجد أن قيمة كحسن الصدق وقبح الكذب غير مطردة وضرورية وواضحة، على خلاف قولنا مثلًا في الضرورات العقلية بأن الواحد نصف الإثنين، وأن الشيء لا يكون موجودًا ومعدومًا في الوقت ذاته.

ويمكن الرد على هذا الاعتراض من وجهين:

الأول: أن وجود التفاوت بين البديهيات لا يطعن في صدقها وبدهيتها. يقول ابن تيمية رحمه الله: "لأن البديهي هو ما إذا تصور طرفاه جزم العقل به، والمتصوران قد يكونان خفيين، فالقضايا تتفاوت في الجلاء والخفاء لتفاوت تصورها كما تتفاوت ‌لتفاوت ‌الأذهان، وذلك لا يقدح في كونها ضرورية ". (ابن تيمية، 1991، 1/31). إذن إن كان التفاوت في البديهيات يقلل من قيمتها البدهية فإن هذا القانون يسري على الضرورات العقلية أيضًا كما يسري على القيم الأخلاقية المطلقة.

الثاني: إن كون الشيء يدرك عقلًا لا يستلزم بداهته، فلا تلازم بين نفي البداهة ونفي كون الحكم عقليًا، فكل بدهي عقلي، وليس كل عقلي بدهي، بل قد يكون نظريًا وبحاجة إلى تأمل ونظر للوقوف عليه.

ومن الغريب أن هذا التفاوت في الوضوح يعد دليلًا على ذاتية صفتي الحسن والقبح، إذ كونها متساوية قبل ورود الشرع ينافي كونها متفاوتة في وضوحها، فلو أن فعل الكذب بغية بيع بضاعة وفعل صلب نبي متساويان إلى أن يأتي الشرع ليميز بينهما يقتضي أن لا تتفاوت عند الناس إلى أن يأتي الشرع، وهذا خلاف الواقع منذ أن خلِق البشر إلى يومنا هذا. (عبد الجبار، د. ت، 1/255)

4.4. معضلة يوثيفرو[2] والحصر المخادع:

إن إحدى المعضلات التي تواجه الطرح الإسلامي بشقيه الشرعي والعقلي هي المعضلة الشهيرة المسماة بمعضلة (يوثيفرو)، وقد أشرنا إلى فكرتها الأساسية في بداية البحث، وملخصها: هل الخير محبوب من الإله لكونه خيرًا في ذاته؟ أو أنه خير لأن الإله يحبه؟

وبصياغة إسلامية ذكرها الإمام الرازي رحمه الله تعالى في تفسيره، إذ قال: "والعمل الصالح عندنا كل ما أمر الله به صار صالحا بأمره، ولو نهى عنه لما كان صالحًا، فليس الصلاح والفساد من لوازم الفعل في نفسه، وقالت المعتزلة ذلك من صفات الفعل ويترتب عليه الأمر والنهي، فالصدق عمل صالح في نفسه ويأمر الله به لذلك، فعندنا الصلاح والفساد والحسن والقبح يترتب على الأمر والنهي، ‌وعندهم ‌الأمر ‌والنهي يترتب على الحسن والقبح". (الرازي، 2000، 25/30). ولا نعلم أن كان الإمام قد اطلع على مقالة أفلاطون في محاوراته أم أنه رحمه الله قد صاغ الأمر بناء على السياق الإسلامي والنقاش الدائر بين السادة الأشاعرة والسادة المعتزلة، ولكن صياغة الإمام الرازي للفكرة قريبة جدًا من الصياغة التي ذكرها أفلاطون في محاوراته.

وعلى أية حال.. فهنا تُطرح قضية موضوعية القيم الأخلاقية على طاولة البحث، فإن قلنا بالأول فسيكون مشكلًا في القول بعدم الحاجة إلى الإله في الوصول إلى الأخلاق الفاضلة، كونها مستقلة عن الإرادة الإلهية، وأن الإله -كما المخلوق- تابع لمفهوم القيمة الأخلاقية المطلقة الموضوعية، وهي التي تحكم الإرادة الإلهية، مما يدل على التشكيك في كمال القدرة والإرادة بالنسبة للذات العلية.

وإن قلنا بالخيار الثاني فإن ذلك يقضي على موضوعية القيمة الأخلاقية كونها لا معيار ولا مقياس حقيقي لها، فهي تابعة للإرادة الإلهية، وعليه فمن الممكن القول أن الصدق سيقبح والكذب سيحسن، أو بأن العدل سيقبح وأن الظلم سيحسن بمجرد الإرادة الإلهية.

ويمكن تقسيم الرد على هذه المعضلة إلى قسمين:

الأول: فيما يتعلق بالخالق جل وعلا.

الثاني: فيما يتعلق بالمخلوقين.

الأول: فيما يتعلق بالخالق جل جلاله: فإن التصور الصحيح للذات العلية يقضي ببطلان هذه المعضلة، والذي يعرض هذه القضية يحاول أن يوقع الآخر بقصد أو بغير قصد في مغالطة الحصر المخادع، بأن يضعه بين خيارات يحددها هو، مع وجود خيار آخر أكثر منطقية واتساقًا مع القضية. والخيار الثالث هنا هو القول: أنه جل وعلا بحكم كونه إلهًا فلا بد من أن يكون كاملًا، وكماله يقتضي أزليته، وصفاته لا تنفك عن ذاته أزلًا، فهو عدل رحيم كريم صادق منذ الأزل، فكماله يقتضي أن يتصف بصفات الكمال، وإلا فلا معنى للكمال هنا، فلم تأت هذه الصفات من خارج ذاته جل وعلا لنقول بأنه جل جلاله قد اختارها من ضمن صفات أخرى، بل هي ملازمة له منذ الأزل، فكانت هذه الصفات حسنة لاتصاف الإله بها أزلًا، وضدها قبيحة لعدم اتصاف الخالق بها أزلًا. فقِدم صفاته من مقتضيات قدم ذاته جل وعلا، فهو قديم غني، فلا حاجة طارئة له لصفة تجعله كاملًا، بل صفاته القديمة من لوازم كماله، وكماله من لوازم ألوهيته، وأي إخلال في ذلك سيكون إخلالًا بمفهوم الألوهية نفسه.

إذن.. فلسنا مضطرين إلى القول بكون الإله اختارها وأوجدها بعد أن لم تكن، فتفقد بذلك موضوعيتها. ولا أن نقول بأنها اكتسبت موضوعيتها من خارج الذات الإلهية فتكون حاكمة على الاختيارات الإلهية. بل هي نابعة من الذات الإلهية كون تلك الذات متصفة بتلك الصفات الحسنة أزلًا لأنها من مقتضيات ذاته الكاملة.

والأمر أشبه بقولك: هل الله كان الأول لأنه أراد ذلك، أم أنه أراد ذلك لكونه أولًا؟ فهذا غير وارد، فكونه إلهًا يقضي بكونه أولًا، وكونه إلهًا يقضي بكونه كاملًا، وكونه كاملًا يقضي باتصافه بصفات الكمال، وهي هنا العدل والحكمة والقدرة والعلم وغير ذلك من صفات الكمال.

الثاني: فيما يتعلق بالمخلوقين: وهذه تكون تابعة لسابقتها، فالعقل الإنساني مخلوق لله تعالى، وقد فطره وهيأه على الهيأة التي تجعله يدرك حسن تلك القيم وقبح أضدادها. إذ في العالم الحادث هذا كل شيء مخلوق له جل وعلا، حتى تلك المعاني التي تتعلق بالحوادث في عالمنا المادي، فالحسن والقبح والظلم والعدل والصدق والكذب هي معانٍ متعلقة بأفعال كلها مخلوقة لله جل وعلا، والعقل الإنساني كونه من مخلوقاته فقد فطره بالطريقة التي تمكنه من إدراك الحسن والقبح في الصفات التي هي منبثقة من ذاته جل وعلا أساسًا، فيرى حسن العدل وقبح الظلم، وحسن الصدق وقبح الكذب، وحسن الرحمة وقبح القسوة، وغيرها من القيم المطلقة.

كما أنه جل وعلا لا يأمر بالشيء لمجرد الإرادة، بل الأمر مصحوب بصفة الحكمة، فلا يأمر الله تعالى بشيء لمجرد الإرادة بعيدًا عن حكمته لكي يُخشى من أن يأمر بما هو قبيح، لذا لا يمكن أن يأمر بما هو عبث، ولا بما لا يطاق، ولا بما هو شر محض كونها خاطئة في ذاتها وتعارض مفهوم الحكمة الإلهية. فيدرك الإنسان حسن هذه وقبح تلك بما وهبه الله جل جلاله من ملكة التمييز بين الصواب والخطأ والخير والشر والحسن والقبيح، فلولا هذه القدرة لما استطاع أن يميز بين النبي الصادق والدعي الكاذب.

ويحسن نقل نص للإمام ابن القيم رحمه الله يشرح فيه هذا المقصد قائلًا: "فإنه سبحانه فعاله عن كماله، فإنه كمل ففعل، لا أن كماله عن فعاله، فلا يقال: فعل فكمل، كما يقال للمخلوق". (ابن القيم، 1432، 2/1026).

والخلاصة.. أن الله تعالى قديم أزلي متصف بصفات منذ الأزل، وهذه الصفات حسنة قطعًا كون الإله الكامل يتصف بها، وهي معانٍ مطلقة، ثم خلق البشر وميزهم بخاصية العقل الذي هيأه على الهيئة التي يستطيع من خلالها معرفة الحسن من القبيح كونه من مخلوقاته جل جلاله. فأمر سبحانه بالأفعال الحسنة لأنها حسنة في ذاتها كونها مناسبة لما تتصف به ذاته العلية. فحكمته تقتضي أن لا يأمر إلا بالحسن ولا ينهى إلا عن القبيح. (العميري، 2018، 240-248). (فودة، 2016، 391-395).

5. النتائج

يمكننا تلخيص النتائج التي توصل إليها البحث في النقاط الآتية:

5 .1. على عكس ما يشاع، فإنه ليست هنالك فرقة من فرق المسلمين تحيد العقل وتستثنيه من عملية فهم النصوص الشرعية، بل كلها وبلا استثناء تعتمد على العقل اعتماد كبيرًا جدًا، تتفاوت في درجتها لا في أصل اعتبارها.

5 .2. إن السادة الأشاعرة في مبحثي التحسين والتقبيح وتقديم العقل على النقل يقدمون دليلًا على أن مسألة اتهامهم من قِبَل بعض الفرق بتقديم العقل على النقل -هكذا بإطلاق- ليس دقيقًا، إذ تجدهم يقدمون الشرع هنا في مسألة التحسين والتقبيح على النحو الذي سردناه، وقد يقدمون العقل على النقل في مسائل أخرى كما هو موضح في مضانه، فغالبية القائلين بتفرد الشرع بمسألة التحسين والتقبيح هم من السادة الأشاعرة، وعلى الجانب الآخر تجد الفرق الأخرى التي قد يُتهم بعض منها من قِبَل بعض الأشاعرة بالتقيد بالنص الشرعي وإهمال الجانب العقلي في فهمها وتوجيهها بما يتوافق مع العقل. إذن مستند هذه الفرق في غالبها هو الدليل والاتساق مع الأصول التي تتبناها، ونحسن الظن بها جميعًا ونراها لا تتعمد الخطأ بل تتحرى الصواب، وقد تصيبه أو تخطئه.

5. 3. في المجال الأخلاقي كان للعقل دور محوري وأساس في بيان القيم الأخلاقية المطلقة وتأسيس قاعدة متينة في بيان أثره في تحديد القيم الأخلاقية كأداة كاشفة لا منشئة، فليست هنالك فرقة من فرق المسلمين تقول بأن العقل هو الذي يقرر أي القيم حسنة وأيُّها قبيحة، بل له دور أساس في كشف مراد الباري عز وجل كما يكشفه الشرع أيضًا.

5. 4. هنالك من الصفات ما هو ذاتي الحسن والقبح، ومنها ما هو ملازم لها، ومنها بكل تأكيد ما هو غير مدرك بالعقل إلى أن يأتي الشرع ببيان حسنها وقبحها، كالعبادات، وإن كان معلوم حسنها للعقل إجمالًا، غير مدركة في بعض تفاصيلها.

5. 5. تبين خلال البحث أن بإمكان العقل إدراك الحسن والقبح كون الصفة ذاتية في الأفعال، وقدرته على ذلك الإدراك إنما هي مكتسبة من الباري جل وعلا على ما فطره سبحانه في العقل من قدرة على معرفة وجه الحسن أو القبح في بعض الأفعال ضرورة، ومعرفتها في بعضها عن طريق النظر والاستدلال. إلا أن كثيرًا من المفاهيم الأخلاقية تعجز العقول من الاتفاق على حسنها وقبحها حتى مع وضوحها، حتى وإن قلنا بذاتية الحسن والقبح.

5. 6. ويتبين من خلال البحث أن المراد بالذاتية هنا هو المعنى الأعم، فالمراد به هو الثابت في نفس الأمر لا البدهي الذي يدركه كل عقل، فقد يكون الوصف الذاتي هنا بمعنى ما يدرك بداهة، أو كونه اعتباريًا.

5. 7. وخلافًا للمعتزلة فقد اتفقت باقي الفرق على أن المؤاخذة لا تكون إلا بعد إرسال الرسل، وقد تواترت النصوص من الكتاب والسنة في هذا الباب، مع تقرير الإمكان العقلي في المؤاخذة قبل ورود الشرع، لكن النصوص ترده.

ويمكن ملاحظة أن السادة الأشاعرة قد رفضوا فكرة المؤاخذة لعدم إمكان الجزم بما هو حسن أو قبيح، وأنها أمور اعتبارية، وليست هنالك صفات ذاتية، فلا مؤاخذة قبل الشرع. لكن يمكن رفض هذه النتيجة من قِبَل المخالفين من المعتزلة بأن السادة الأشاعرة إنما يقولون بالتحسين والتقبيح الشرعي، وعليه فلا يقبح في حق الله تعالى -على مذهب الأشاعرة- أن يكلف ويؤاخذ قبل ورود الشرع، فمستند الأشاعرة يكون في هذه الحالة هي النصوص الشرعية، فيُناقَش المعتزلة في مجال النقل لا العقل. على خلاف من يوافقون المعتزلة في أصل التحسين والتقبيح العقلي، فهم مطَّردون مع أصولهم، فهم يخالفونهم في المؤاخذة لورود النصوص الشرعية مع تسليمهم بإمكان المؤاخذة قبل ورود الشرع عقلًا، إذ أن العقل مناط التكليف، وبه يعرف المرء الحسن من القبيح في المجمل، لكن الله اختار بحكمته أن يلزمهم الحجة كاملة بالعقل والنقل لتكون أكمل في الإلزام والحجة.

5. 8. تبين أن القول بالتحسين والتقبيح الشرعي يؤدي لزامًا إلى نتائج ومعضلات تطعن في صدق الرسالة والنبوة، بل تذهب إلى أبعد من ذلك بالطعن في الضرورات العقلية بعد تقرير أنه لا يقبح في حق الله جل وعلا مقدور، ومتفق عليه أنه سبحانه من ضمن مقدوراته قلب الحقائق، بأن يوهمنا بضرورات عقلية ليست بضرورات، والعكس بالعكس، فتنعدم في هذه الحالة الثقة بكل شيء، ويكون ذلك مطعنًا حتى في وجوده جل جلاله، إذ ما عرفنا بوجوده جل جلاله إلا بمعرفة أن قانون السببية لا ينخرم، ثم منعنا العقل بقانون امتناع التسلسل من الاستمرار بسلسلة المسببات وأُجبرنا عقلًا على الوقوف عند العلة الأولى باصطلاح الفلاسفة، فإن شكَّكنا في هذا القانون العقلي الضروري كان ذلك مدخلًا لإمكانية ظهور العالم من عدم دون حاجته إلى خالق، وهذا ما تنفيه الفرق جميعها بلا استثناء.

5. 9. إن القول بالتحسين والتقبيح الشرعي كان ثمرة من ثمار القول بنفي تعليل أفعال الله جل وعلا، مع أن الإمام الأشعري رحمه الله إنما جاء بهذه المقالة للتخلص من اللوازم التي ألزم المعتزلة أنفسهم بها بعد أن قرروا التحسين والتقبيح العقلي، وأوحت بعض نصوصهم بالإيجاب على الله تعالى العوض على الآلام، والصلاح والأصلح واللطف.

5. 10. إن علمنا أن القول بامتناع تعليل أفعال الله جل وعلا عند السادة الأشاعرة مما ينتج عنه القول بالتحسين والتقبيح الشرعي، علمنا أن ذلك يمكن أن يكون مدخلًا للطعن في كافة مباحث العلة والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة المبثوثة في كتب أصول الفقه، والتي من أكبر أئمتها هم السادة الأشاعرة.

5. 11. معضلة يوثيفرو يمكن الرد عليها بشكل منطقي ومتسق من وجهة نظر القائلين بالتحسين والتقبيح العقلي، وتبقى إشكالية عدم موضوعية القيم المطلقة محل نظر إن كان الرد مبنيًا على نفي التحسين والتقبيح العقلي.

6. التوصيات:

يقدم البحث عدة توصيات يمكن الأخذ بها عند التطرق إلى هذه القضية أو القضايا المشابهة فيما يتعلق بقضية الأخلاق.

1.6. يوصي البحث بشدة الباحثين على تناول موضوعات العقيدة وآراء العلماء بكثير من إحسان الظن فيهم، لأن الظن بهم جميعهم أنهم إنما أرادوا إصابة الحق في بحثهم عن مراد الباري جل وعلا، فإن أصابوا أو أخطأوا فهم مأجورون طالما أنهم اتخذوا السبل المتاحة أمامهم لفهم هذه القضايا الشائكة، فينبغي على الباحثين تجنب الحكم على الأشخاص، ومعرفة أقدارهم، وتثمين جهودهم المباركة في إيصال الشريعة وفهم الدين، دون الخوض في شخوصهم، فليس ذلك بمنهج علمي ولا أخلاقي رصين.

2.6. كما يوصي البحث الباحثين ممن يريدون التعمق أكثر في هذه القضية أن يبينوا بشكل أدق الأسباب التي دعت كل فرقة للقول الذي ذهبت إليه في التحسين والتقبيح، لأن إرجاع المقالات إلى أسسها التي انبنت عليها وبيان منطلقاتها الفكرية وتفكيك تلك المقالات حتى يتبين تأثر بعضها ببعض لكفيل بحل كثير من القضايا وفهم الدواعي الملجئة لهم إلى القول بهذا التوجه أو ذاك. وهذا الأمر ينطبق على جميع القضايا المختلف فيها وليست قضيتنا موضوع البحث هذه فحسب.

6. 3. كما يوصي البحث بدراسةٍ للمذاهب الفكرية المعاصرة في المسألة الأخلاقية، وخاصة الفلسفة المادية، ومقارنتها بنظيرتها الإسلامية، وبيان نقاط الالتقاء والافتراق فيما بينها، ثم بيان ما يترتب على وضع الأخلاق في سياق مادي، ومدى تأثير ذلك على الموضوعية الأخلاقية.

7. المصادر والمراجع

- بعد القرآن الكريم.

7. 1. الكتب:

ابن ابي الحديد. (1967). شرح نهج البلاغة. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركائه.

ابن السمعاني، أبو المظفر، منصور بن محمد بن عبد الجبار ابن أحمد المروزي السمعاني التميمي الحنفي ثم الشافعي. (1999). قواطع الأدلة في الأصول. تحقيق: محمد حسن محمد حسن اسماعيل الشافعي. بيروت: دار الكتب العلمية.

 ابن القيم، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب. (1432ه). مفتاح دار السعادة، ومنشور ولاية العلم والإرادة. تحقيق: عبد الرحمن بن حسن بن قائد. مكة المكرمة: دار عالم الفوائد.

ابن الهمام، الكمال بن الهمام الحنفي. (د. ت). المسايرة في علم الكلام والعقائد التوحيدية المنجية في الآخرة. تحقيق وشرح: محمد محيي الدين عبد الحميد. لبنان: دار ومكتبة بيبليون. ط1

ابن تيمية، تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني. (1426هـ). بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية. تحقيق: مجموعة من المحققين. مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.

ابن تيمية، تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني. (1991). درء تعارض العقل والنقل. تحقيق: د. محمد رشاد سالم، جامعة الملك محمد بن سعود الإسلامية.

ابن تيمية، تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني. (1999). اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم. تحقيق: ناصر عبد الكريم العقل. بيروت: دار عالم الكتب.

ابن تيمية، تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني. (2004). مجموع الفتاوى. جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم وابنه محمد. المدينة المنورة: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.

ابن تيمية، تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني. (2005). الرد على المنطقيين، المسمى أيضًا نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان. بيروت: مؤسسة الريان. ط1.

ابن جزي، أبو القاسم محمد بن أحمد بن جُزَي الكلبي الغرناطي المالكي. (2003). تقريب الوصول إلى علم الأصول. تحقيق: محمد حسن إسماعيل. بيروت: دار الكتب العلمية.

 ابن حلولو، أحمد بن عبد الرحمن ابن موسى. (1999). الضياء اللامع شرح جمع الجوامع. تحقق: عبد الكريم النملة. الرياض: مكتبة الرشد.

ابن عقيل، أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي الظفري. (1999). الواضح في أصول الفقه. تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي. بيروت: مؤسسة الرسالة.

ابن فارس، أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين. (1986م). مجمل اللغة. تحقيق: زهير عبد المحسن سلطان. بيروت: مؤسسة الرسالة.

ابن قدامة، موفق الدين عبد الله بن أحمد الجماعيلي. (2002). روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل. قدم له ووضح غوامضه وخرج شواهده: الدكتور شعبان محمد إسماعيل. مؤسسة الريان.

أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعي الإفريقي، (1414هـ). لسان العرب. بيروت: دار صادر.

أبو يعلى، محمد بن الحسين الفراء البغدادي الحنبلي، القاضي. (1990). العدة في أصول الفقه. تحقيق: أحمد المباركي. الرياض: د. ن. ط2.

 الأشعري، أبو الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله. (1980م). مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين. فيسبادن: دار فرانز شتايز. ط3.

أفلاطون. (2022). محاورات أفلاطون، أوطيفرون. الدفاع. أقريطون. فيدون. جمع بنيامين جويت. ترجمة: زكي نجيب محمود. وندسور: مؤسسة هنداوي.

الآمدي، أبو الحسن علي بن محمد. (1402هـ). الإحكام في أصول الأحكام. دمشق، بيروت: المكتب الإسلامي.

اندروز، إدكار. (2014). من خلق الله؟ البحث في نظرية كل شيء. لبنان: مركز مورغان للنشر والإعلام.

الإيجي، التفتازاني، الجرجاني. عضد الدين عبد الرحمن، سعد الدين مسعود بن عمر بن عبد الله، السيد الشريف. (2004). شرح المختصر الأصولي للإمام أبي عمرو عثمان ابن الحاجب المالكي. تحقيق: محمد حسن محمد حسن إسماعيل. بيروت. دار الكتب العلمية.

الباجي، أبو الوليد سليمان بن خلف. (1989م). إحكام الفصول في أحكام الأصول. تحقيق: عبد الله محمد الجبوري. بيروت: دار الرسالة، ط1.

الباقلاني، أبو بكر المالكي، محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم، القاضي. (1998). التقريب والإرشاد الصغير. مؤسسة الرسالة. تحقيق: عبد الحميد بن علي أبو زنيد. ط2.

البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي. (1993). صحيح البخاري= الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه. تحقيق: مصطفى ديب البغا. دمشق: دار ابن كثير، دار اليمامة.

البوطي، محمد سعيد رمضان. (1997). كبرى اليقينيات الكونية، وجود الخالق ووظيفة المخلوق. دمشق: دار الفكر. ط8.

التفتازاني، سعد الدين مسعود بن عمر بن عبد الله. (1996). شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه. تحقيق: زكريا عميرات. بيروت: دار الكتب العلمية.

التفتازاني، سعد الدين مسعود بن عمر بن عبد الله. (1998). شرح المقاصد. تحقيق وتعليق: عبد الرحمن عميرة. بيروت: عالم الكتب.

الجرجاني، السيد الشريف علي بن محمد. (1998). شرح المواقف للقاضي عضد الدين عبد الرحمن الإيجي. بيروت: دار الكتب العلمية.

الجويني، إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد، أبو المعالي، ركن الدين. (1950). الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد. تحقيق: محمد يوسف موسى، علي عبد المنعم عبد الحميد. مصر: مكتبة الخانجي.

الجويني، عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، أبو المعالي، الملقب بإمام الحرمين. (1997). البرهان في أصول الفقه. تحقيق: صلاح بن محمد بن عويضة. بيروت: دار الكتب العلمية.

الحلي، الحسن بن يوسف المطهر. (1414هـ). نهج الحق وكشف الصدق. قم: دار الهجرة.

دراز، محمد عبد الله. (2021). كلمات في مبادئ علم الأخلاق. وندسور: مؤسسة هنداوي.

دراز، محمد عبد الله، (1998). دستور الأخلاق في القرآن، دراسة مقارنة للأخلاق النظرية في القرآن، تعريب وتحقيق وتعليق: د. عبد الصبور شاهين. بيروت: مؤسسة الرسالة. ط10.

الرازي، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي. (1997). المحصول. دراسة وتحقيق: طه جابر فياض العلواني. بيروت: مؤسسة الرسالة.

الرازي، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي. (2000). مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير. بيروت: دار الكتب العلمية. ط1.

الرازي، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي. (1987). المطالب العالية من العلم الإلهي. تحقيق: أحمد حجازي السقا. بيروت: دار الكتاب العربي.

رضا، محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني الحسيني. (1990م). تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار). الهيئة المصرية العامة للكتاب.

الريسوني، أحمد. (1995). نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي. فيرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي.

الريسوني، أحمد. (2016). دراسات في الأخلاق. المنصورة: دار الكلمة للنشر والتوزيع.

الزحيلي، وهبة بن مصطفى الزحيلي. (1418هـ). التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج. دمشق: دار الفكر المعاصر.

الزمخشري، جار الله أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد. (1987). الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل. القاهرة- بيروت: دار الريان- دار الكتاب العربي. ط3.

الشاطبي، أبو إسحاق. (2007). الموافقات في أصول الشريعة. تحقيق: محمد عبد القادر الفاضلي. بيروت: المكتبة العصرية.

شميتكه، زابينه. (2018). المرجع في تاريخ علم الكلام. ترجمة: أسامة شفيع السيد. تقديم: العلامة حسن الشافعي. بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات.

الشهرستاني، أبو الفتح حمد بن عبد الكريم. (2011). الملل والنحل. دمشق: مؤسسة الرسالة ناشرون. ط1.

الشيخ زاده، عبد الرحيم بن علي. (1317هـ). نظم الفرائد وجمع الفوائد في بيان المسائل التي وقع فيها الاختلاف بين الماتريدية والأشعرية في العقائد، مع ذكر أدلة الفريقين. مصر: المطبعة الأدبية. ط1.

صدر الشريعة، عبيد الله بن مسعود المحبوبي البخاري الحنفي. (1996م). التوضيح في حل غوامض التنقيح. تحقيق: زكريا عميرات. بيروت: دار الكتب العلمية.

عبد الجبار، القاضي أبي الحسن عبد الجبار الأسد آبادي. المغني في أبواب التوحيد والعدل. تحقيق: محمود محمد قاسم. د. م: د. ن.

عبد الجبار، القاضي، عبد الجبار بن أحمد. (1996م). شرح الأصول الخمسة. تحقيق: عبد الكريم عثمان. القاهرة: مكتبة وهبة.

عبد الجبار، القاضي، عبد الجبار بن أحمد. (د. ت). المجموع في المحيط بالتكليف. جمع أبو محمد الحسن بن أحمد النجراني. عُني بتصحيحه ونشره: الأب جين يوسف هوبن اليسوعي. بيروت: المطبعة الكاثوليكية.

عبد الجبار، القاضي، عبد الجبار بن أحمد. المغني في أبواب التوحيد والعدل. تحقيق: محمود محمد قاسم.

العز بن عبد السلام، أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن السلمي الدمشقي. (1991). قواعد الأحكام في مصالح الأنام. راجعه وعلق عليه: طه عبد الرؤوف سعد. القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية.

 عفيفي، محمد عبد الله. (1988م). النظرية الخلقية عند ابن تيمية. الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية. ط1

 عمارة، محمد. (1988م). المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية. القاهرة: دار الشروق. ط2

العميري، سلطان بن عبد الرحمن. (2018). ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي. لندن: مركز تكوين للدراسات والأبحاث.

الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد الطوسي. (1971). شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل. تحقيق: حمد الكبيسي. بغداد: مطبعة الإرشاد.

الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد الطوسي. (1993). المستصفى. تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي. بيروت: دار الكتب العلمية. ط1.

الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد الطوسي. (د. ت). إحياء علوم الدين. بيروت: دار المعرفة.

الفراهيدي، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم. (د. ت). كتاب العين. د مهدي المخزومي، د إبراهيم السامرائي. دار ومكتبة الهلال.

فودة، سعيد عبد اللطيف. (2016). الأدلة العقلية على وجود الله بين المتكلمين والفلاسفة، دراسة مقارنة. منشورات الأصلين.

الفيروزآبادي، مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب. (2005م). القاموس المحيط. بیروت: مؤسسة الرسالة.

القرافي، أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي. (1994). الذخيرة. تحقيق: محمد حجي. بيروت: دار الغرب الإسلامي.

القرافي، أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي. (1998). الفروق أو أنوار البروق في أنواء الفروق. تحقيق: خليل المنصور. بيروت: دار الكتب العلمية.

كانت، إيمانويل. (2008). نقد العقل العملي. ترجمة: غانم هنا. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

الكلنبوي، الشيخ زاده أبو الفتح إسماعيل بن مصطفى. (2017). حاشية الكلنبوي على شرح الجلال الدواني على العقائد العضدية. تحقيق: أحمد فريد المزيدي. بيروت: دار الكتب العلمية.

مرتضى، محمد بن محمد الحسيني الزبيدي.  (د. ت). إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين. بيروت: دار الكتب العلمية.

المرداوي، علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان الدمشقي الصالحي الحنبلي. (2000). شرح التحرير. دراسة وتحقيق: د. عبد الرحمن الجبرين، د. عوض القرني، د. أحمد السراح. الرياض: مكتبة الرشد.

مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري. (1334هـ). الجامع الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. تحقيق: مجموعة من المحققين. تركيا: دار الطباعة العامرة.

المسيري، عبد الوهاب. (2002). العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة. القاهرة: دار الشروق.

المطيعي، محمد بخيت. (د. ت). سلم الوصول لشرح نهاية السول. د. م: عالم الكتب.

7. 2. المجلات العلمية:

إبراهيم، زكريا. (1967). عود إلى مشكلات الاخلاق. مجلة الفكر المعاصر. القاهرة، العدد 32.

كريغ، وليم لين. (د. ت). مقالة: هل يمكن أن نكون صالحين من دون إله؟ ترجمة: مصطفى هندي. بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات.

Ablondi, F. (2012). James Beattie, Practical Ethics, and the Human Nature Question. Journal of Scottish Philosophy, 10(1), 1-12. https://www.euppublishing.com/doi/full/10.3366/jsp.2012.0024

Díaz, R. (2023). Do moral beliefs motivate action? Ethical Theory and Moral Practice, 1-19. Springer Nature. https://doi.org/10.1007/s10677-023-10389-x

Maciej Chudek, Rita Anne McNamara, Susan Birch, Paul Bloom & Joseph Henrich (2017). Do minds switch bodies? Dualist interpretations across ages and societies. Journal of Religion, Brain & Behavior. Taylor&Francis Group. p 355-367. https://www.tandfonline.com/doi/abs/10.1080/2153599X.2017.1377757


 

 

 

 

ب باش زانين و ب خراب زانين (التحسين والتقبيح) د ناڤبەرا عەقل و شەریعەتیدا

"خواندنەكا ڕەخنەیی د گه‌ل هه‌ڤبه‌ركرنێ "

كورتی:

ئەڤ ڤەكولینە ل دۆر گرنگییا ڕولێ عەقلییە د دیاركرنا بهایێن ڕه‌وشتی و ئەرێ كا د شیانێن ڤی عەقلیدا هه‌یه‌ ڕولەك د ڤی بیاڤیدا هەبیت یان نه‌؟ ڤەكولینێ قوتابخانه‌یێن هزری یێن ئیسلامی ل دۆر ڤی بابەتی دیاركرن كو ئەو ژی دوو بۆچوونێن سەرەكینە، ئێك ژ وان دیار دكەت كو باشی و خرابی د ناڤ كار و كریاراندا (د خویینە) و د شیانێن عەقلیدا هه‌یە ڤی تشتی بزانیت و دشێت بزانیت كو حوكمێ خودێ د ڤی بابەتیدا چییە بەری بێغەمبه‌ر بۆ بهێنه‌ هنارتن. بەلێ پشكه‌كا دی ژ زانایان باوەری ب جۆرەكێ دی ژ ڕه‌وشتان هەیە كو ل دویڤ بها و پڕه‌نسیپێن به‌رژه‌وه‌ندی و خرابییێ دچیت، ئانكو هەر تشتەكێ مفا و به‌رژه‌وه‌ندی تێدا هەبیت؛ ئەو تشته‌كێ باشە و هەر تشتەكێ خرابی تێدا بیت؛ ئەو یێ خرابە. ئانكو ئەڤه‌ تێگەهەكێ ڕێژەییە وعەقل نەشێت ب تەمامی ڤی تشتی بزانیت، چونكی به‌رژه‌وه‌ندی و خرابییێ د ڕێژەیینە، باشی و خرابییا كریاران ژی نە تێگەهێن ڕەهانە تێدا، ئەڤجا چ پێنەڤێت ل ڤێرێ عه‌قل حوكمێ خودێ نزانیت هه‌تا بێغەمبەر نەهێن و ڤی حزكمی بۆ مە دیار بكەن. ئەڤ هەردوو بۆچوونێن جۆدا، ئێك ژ وان موعتەزیلەیان دەستپێشخەرییێ تێدا دكەت و یا دی ژی ئەشعەری‌. ب ناڤودەنگترین دابەشكرنا بۆچوونان ئەوە یا ئیمامێ ڕازی دانای كو بۆ سێ پشكان دابه‌شكرییه‌، یا ئێكێ ئه‌وه‌ یا د گه‌ل حەز و دلچوونێن مرۆڤی د گونجیت و ئێك دگریت. یا دووێ هەر تشتەكێ ژ سالۆخه‌تێن ته‌مامبوونێ و كێمبوونێ بیت. یا سێیێ ئەو تشتە یێ كو ژ هه‌ژی دەستخۆشییێ یان شه‌رمزاركرنێ بیت. هەمی قوتابخانه‌یێن هزری ل سەر عەقلانیبوونا هەردوو دابه‌شكرنێن ده‌ستپێكێ د ئێكدەنگن، بەلێ بۆچوونێن وان ل سەر یا سێیێ د هەڤدژن. ڤەكولینێ بەڵگه‌یێن هەردوو قوتابخانه‌یان دیاركرن، د گەل گەنگەشەكرن و شرۆڤەكرنا وان به‌ڵگه‌یان، ل دویماهیكێ ژی گەهشتە وی ئەنجامی كو باشی و خرابی د ناڤ كار و كریاراندا د (خویینە) وعەقل دشێت بگه‌هیتێ و بزانیت، بەلێ خه‌لاتكرن و سزادان ل ئاخرەتێ نابیت هه‌تا بێغەمبەر ڤی تشتی دیار نەكه‌ن، ژ بەر كو بەڵگه‌یێن قورئانا پیرۆز وگوتنێن بێغەمبەری (سلاڤ لێ بن) ل سەر ڤێ چەندێ د دیار و ئێكلاكەرن.

پەیڤێن سەرەكی: عەقل و ڕه‌وشت، ب باش زانین و ب خراب زانین، باشی و خرابی، دیتنا ئەگەران بۆ كریارێن خودایێ مەزن، ئاریشه‌یا یوثيڤرۆ.

 

 

 

ETHICS BETWEEN REASON AND SHARIA

“A COMPARATIVE CRITICAL STUDY

ABSTRACT:

The research revolves around the importance of the mind in the statement of moral values, and if it can play a role in this field, the research mentioned the Islamic intellectual trends in this field, which revolved around two main trends, a section that governs that the qualities of good and ugliness are subjective in actions, and in the ability of the mind to see them and know the rule of God in them before the mission of the prophets, and a team of them went to the order of blame for it sooner and later before the advent of Sharia. The other part believed in a kind of moral consequences that could be defined by reason based on the interest and corruption decided by the mind, but they remain additional qualities of consideration, and do not acquire their value and do not outweigh one over the other until after the divine command is received. The first team is headed by the Mu'tazilites, while the second is led by the Ash'aris. And the most famous division of the subject of dispute - although it was considered - what Imam Razi mentioned, he mentioned a division of three aspects, what was in accordance with the nature and purpose and what was contrary to it, and the latter was the characteristic of perfection and the recipe of deficiency, and the third what deserved praise and slander. So they unanimously agreed on the rationality of the first two and differed in the third, so the Mu'tazila and those who agreed with them went to make it mental as well, and the Ash'aris disagreed with them and those who agreed with them that Sharia is the one that gives the quality of good and ugliness to it. They are not subjective, and the mind cannot be certain of God's judgment in them before the law. The research mentioned the evidence of the two groups with discussion and analysis, and the weighting of the subjectivity of the qualities of good and ugliness in the acts in the absent and the witness, and the possibility of the mind to stand on it, with the denial of blame before the arrival of Sharia for the frankness of the legal texts in that the reward and punishment are arranged after the arrival of the message and proof of the argument.

 KEYWORDS: reason and morality, improvement, and ugliness, good and ugly, explanation of the actions of God Almighty, Euthyphro’s dilemma.

 

 



* الباحث المسؤل.

This is an open access under a CC BY-NC-SA 4.0 license (https://creativecommons.org/licenses/by-nc-sa/4.0/)

[1]. والمراد من المعترضين هنا على مسألة التحسين والتقبيح العقلي أن قولك (لأكذبن غدًا) يحمل في طياته حسنًا وقبحًا إن افترضنا الحسن والقبح العقلي، وهذا ممتنع لاجتماع النقيضين، لأنه وعد بفعل الكذب غدًا، فإن وفى بوعده وقع في الكذب القبيح، وإن لم يقع في الكذب وصَدَقَ وقع في قبح الإخلاف بالوعد، فهي دائرة مغلقة حسب القائلين بهذه المعضلة. وأشهر أمثلتها هي مثال (جزيرة كريت)، فإن قال رجل من (كريت) جميع سكان هذه المدينة كاذبون، فإن كان صادقًا في كلامه كان كاذبًا في نفس الوقت، لأن صدقه ينفي كذب جميع من في الجزيرة، لأنه واحد منهم.

[2] وهي شخصية غير معروفة سوى في محاورات أفلاطون، والتي يتحاور فيها مع سقراط حول المعضلة المتعلقة بكيفية تحديد المفاهيم الأخلاقية ومدى مطلقيتها، وسُمِّيت المعضلة باسمه واشتهرت به. ينظر: (أفلاطون، 2022، 32-33).