سياسة الدولة العثمانية تجاه الإمارات الكردية في كردستان (1514-1851م)

فائزة محمد حسن ملوك *

قسم التاريخ- كلية الآداب-جامعة دمنهور/ جمهورية مصر العربية.

تاريخ الاستلام: 05/2023            تاريخ القبول: 08/2023    تاريخ النشر: 12/2023  https://doi.org/10.26436/hjuoz.2023.11.4.1369

 الملخص:

كان دخول كردستان تحت السيطرة العثمانية عام 1514م بعد معركة جالديران بداية للعلاقات السياسية بين الكرد والعثمانيين بتوقيع اتفاق السلطان العثماني سليم الأول (1512-1520م) في تلك السنة مع قادة الإمارات الكردية على الوقوف إلى جانب الدولة العثمانية في حروبها على أن تعترف الأخيرة باستقلالية الإمارات الكردية. ومنذ هذه اللحظة أصبح هناك منعطفًا كبيرًا في تاريخ العلاقات العثمانية – الكردية إذ أصبحت معظم المناطق الكردية تابعة للدولة العثمانية، ونتيجة لمشاركة الكرد العثمانيين في حروبهم ضد جيرانهم الصفويين لا سيما بعد المعركة السابقة فقد أقر السلاطين العثمانيون بشرعية وسلطة الأمراء الكرد في إماراتهم الوراثية وسمحت الدولة العثمانية بتشكيل عديد من الإمارات الكردية، وصل عددها إلى ثلاثين إمارة رئيسة مثل إمارات بهدينان، وسوران، وبوتان، وبابان بعد توقيع الدولة العثمانية مع تلك الإمارات اتفاقية صداقة وتحالف عام 1515م. لكن لم تلتزم الدولة العثمانية بالاتفاقيتين السابقتين لتحقيق عدة منافع لها على حساب إضعاف الكيانات السياسية في كردستان بإشعال النزاعات والمشكلات بين الإمارات والزعامات الكردية ما عرف باسم سياسة فرق تسد والتدخل العثماني في شؤونهم، وتحقيق مكاسب مالية من قِبَل الأمراء الكرد الطامعين في الحصول على منصب الإمارة فضلاً عن المغالاة في فرض الضرائب وانتشار عمليات السلب والنهب بالإمارات الكردية مما أدى إلى ظهور عدة انتفاضات كردية احتجاجًا على تلك السياسة والدفاع عن حقوقهم، ومع حلول القرن التاسع عشر استهدفت السياسة العثمانية إعادة السيطرة المركزية على كردستان لتحقيق هدفها الأكبر وهو سقوط الإمارات الكردية القائمة منذ عدة قرون.

وما تبع ذلك من قيام عدة انتفاضات كردية وقد تم ذلك على فترات متقاربة خلال القرن التاسع عشر حتى سقوط آخر إمارة بها عام 1851م.

ولم تكتف بذلك بل عمدت إلى إبعاد الأمراء الكرد وعائلاتهم إلى مناطق بعيدة عن كردستان لمنعهم من القيام بأية ثورات في المستقبل.

من هنا جاء مشكلة البحث مركزة على النقاط التالية:

1) كيف تمكنت الدولة العثمانية من فرض سيطرتها على كردستان؟

2) كيف تمت عثمنة كردستان سياسيًا وإداريًا؟

3) ما هي طبيعة السياسة العثمانية تجاه الأمراء الكرد؟

4) ما هي الأسباب التي دفعت الدولة العثمانية إلى نقض اتفاقية الصداقة والتحالف مع الإمارات الكردية؟

5) إلى أي مدى وصلت السياسة التعسفية تجاه الإمارات الكردية؟

6) ما هو ردود فعل الأمراء الكرد تجاه السياسة العثمانية التعسفية؟

7) كيف واجهت السلطات العثمانية الانتفاضات الكردية؟

8) إلى أي مدى نجحت الدولة العثمانية في فرض السلطة المركزية على كردستان؟ وما أثره على حكم الإمارات؟

9) لماذا لجأت الدولة العثمانية إلى سقوط الإمارات الكردية؟

10) كيف تصدت الدولة العثمانية إلى الانتفاضات الكردية جراء محاولة سقوط الإمارات الكردية؟

11) إلى أي مدى وصلت الأوضاع السياسية والإدارية لكردستان عقب سقوط إماراتها؟

كلمات مفتاحية: الإمارات الكردية – الحكم المركزي العثماني – الانتفاضات الكردية – القومية الكردية.


مقدمة

 تعددت الآراء حول تحديد حدود كردستان العثمانية فهناك رأي يذكر بأنها تمتد من أريفان أرضروم أرزبجان بتركيا، فالقوس الممتد من (ماراش) نحو حلب وغربًا من سفوح الجبال الشمالية المتصلة بدجلة والمارة بمحاذاته وإلى شمال جبال حمدين وعلى امتدادها إلى مندلي (ادموندز، 1971، 75).

بينما يحددها آخر بالمنطقة الممتدة بين جبال ارارات شمالاً وولاية بغداد وما جاورها جنوبًا وفارس (إيران)، أما الحد الغربي لكردستان العثمانية فيمتد، كخط من قارص مارًا بـ (أرضروم) و(أرزبجان) و(خربوط) إلى آمد (دياربكر) ومنها على طول نهر دجلة إلى جبال حمدين (زكي، 1939، 11-12).

بينما يذكر الرحالة العثماني (أولياجلبى) بأنها تمتد من (أرضروم) شمالاً وحتى (البصرة) مارًا بمدن وان، هكارى، الجزيرة، أميدى (العمادية بدهوك) - درتنك إحدى مدن الخط الممتد من حلبجة، نفط شاه، دهلران، (زكي، 1939، 14) في حين رأى ثالث يقول بأن كردستان تشمل البلاد الممتدة من البحر الأسود إلى بلاد ما بين النهرين (كلو، 1991، 283؛ رامبو، 1998، 25).

ومع ذلك يعد رسم خارطة سياسية دقيقة لكردستان في بداية القرن السادس عشر من الأمور الصعبة نظرًا لعدم استقرار الوضع السياسي فيها وذلك لكثرة النزاعات بين الإمارات الكردية نفسها من جهة وبين تلك الإمارات والدول المسيطرة على كردستان الآمد قونيلو من جهة أخرى (زكي، 1939، 162). لكن بالرجوع إلى أحد المصادر تبين أن التقسيم الجغرافي للإمارات الكردية كان ممثلاً في الإمارات الشمالية والتي شملت إمارة بالو الواقعة في شمال إمارة أكيل، وإمارة جرموك الواقعة بين ديار بكر وملاطية (البدليسي، 1953، 184)، وإمارة بدليس والتي تقع في جنوب غربي بحيرة وان وتضم في حكمها مدينة بدليس وتوابعها الصغيرة (البدليسي، 1953،  314- 315)، وإمارة ساسون الواقعة في غربي بدليس وتضم مدينة ساسون (المركز) إضافة إلى ناحية هرزن أوكارزن، وإمارة خيزان الواقعة في جنوب غرب بحيرة وان وإمارة موكس الواقعة جنوب بحيرة وان وإمارة سباروت الواقعة جنوب مدينة بدليس (هروتي، 2008، 23 و 24).

أما إمارات شرقي كردستان فقد شملت إمارة دنبلي الواقعة في شمال غربي بحيرة اورمية وإمارة برادوست الواقعة غرب بحيرة اورمية، وإمارة موكريان الواقعة في جنوب بحيرة اورمية، وإمارة بانه الواقعة جنوب إمارة موكريان وإمارة كلهور الواقعة في شمال لورستان وإمارة لورستان الصغرى الواقعة شمال لورستان الكبرى جنوب غرب إيران (هروتي، 2008، 27-28).

أما إمارات جنوبي كردستان فقد شملت (إمارة بادينان الواقعة جنوب إمارة هكارى، وإمارة سوران جنوب إمارة بادينان، وإمارة بابان شرق إمارة سوران، وإمارة أردلان الواقعة في شرق كردستان وإمارة داسنى شمال الموصل) (بابان، 1986، 104؛ البدليسي، 1953، 15).

كانت معركة جالديران عام 1514م والانتصار العثماني فيها على الصفويين نقطة تحول مهمة للشرق الأوسط عامة ولكردستان خاصة فقد أدت إلى تقسيم كردستان عمليًا بين الدولتين العثمانية والصفوية؛ ما يهمنا كردستان العثمانية فعقب السيطرة العثمانية عليها استعان السلطان سليم الأول بإدريس البدليسي. الذى كان مستشارًا له بوضع خطة تمكنه من كسب تأييد الزعماء الكرد للدولة العثمانية (خصباك، 1959، 23 و 273- 274؛ يحيى، 1987، 135)، واستفاد السلطان سليم من ذلك التأييد مرتين؛ الأولى عندما عاضده الأمراء الكرد في حربه مع الدولة الصفوية خلال معركة جالديران، والثانية عندما عاضدوه لطرد القوات الصفوية الباقية في كردستان لتؤول الأخيرة للدولة العثمانية (زكي، 1939، 105).   

ساعد بعض الأمراء الكرد السلطان سليم على اتخاذ ذلك القرار وتبنى تلك السياسة حيث أن بعض الأمراء الذين استولى الصفويون على ممتلكاتهم راسلوا السلطان وأعلنوا ولاءهم له، كما شجعوه على ضرورة التصدى للصفويين مما يُعنى الالتفات نحو كردستان والتفكير فيها، وقد لعب البدليسي دور الوسيط بين أولئك الأمراء وبين السلطان (البدليسي، 1953، 431)، ويرجح أن تكون تلك الخطوة التي اتخذها الأفراد المذكورون بتأثير البدليسي وتشجيعه لهم أيضًا وخاصةً وأنه كان مكلفًا من قِبَل السلطان للقيام بذلك الدور كما يذكر ذلك بنفسه (زكي، 1939، 7). وقد أفاد السلطان من البدليسي في هذا المجال فائدة كبرى واستفاد البدليسي بدوره من مكانته الدينية والطرق الدبلوماسية التي اتبعها (الجميل، 1980، 193)، وذلك إضافة إلى استياء الأمراء الكرد من سياسة الشاه إسماعيل الصفوي وتعامله معهم (علي، 1992، 94)، إضافة إلى أن تلك الطريقة كانت أقل كلفة نتيجة لتلك الجهود شارك الأمراء الكرد بأنفسهم إلى جانب القوات العثمانية لإدخال كردستان في المجال العثماني وتضاءلت بذلك الحاجة إلى قوات عثمانية كثيرة كما أنها كانت أضمن طريقة للدولة العثمانية في تمكنها من دخول كردستان بموافقة أمراءها.

ومن ناحية أخرى استخدم السلطان سليم الأول، إدريس البدليسي في توسطه لعقد اتفاق بين الدولة العثمانية والأمراء الكرد فنجح في مهماته في عام 1514م أي عقب معركة جالديران جاء مضمون هذا الاتفاق التعهد بالحفاظ على حرية واستقلال الإمارات الكردية، والاعتراف العثماني بالحق الوراثي للأمراء الكرد في حكم إماراتهم ولكن كلما نصب أمير جديد على الإمارة صدر فرمان سلطاني يعترف بحكم ذلك الأمر (جلبى، ج4، 1314هـ، 25-35؛ البدليسي، 1953، 144-145)، يضاف إلى ذلك التزام الأمراء الكرد بمساعدة الدولة العثمانية في حروبها (جلبي، ج4، 1314هـ، 36)، مقابل دفاع الدولة العثمانية عن الإمارات الكردية في حالة تعرضها للخطر (خصباك، 1959، 23)، كذلك حق السلطات العثمانية في عزل الأمير الكردي الذى يتخلف عن أداء ذلك الواجب (جب و بوون، 1997، 203)، لكن في ظل ذلك فرضت الدولة العثمانية على الإمارات الكردية رسوم وضرائب نظير التبعية لها (مصطفي، 1982، 81؛ خصباك، 1959، 23)، مع العلم أن الدولة العثمانية كانت تتغاضى عن مطالبة تلك الإمارات بذلك في بداية سيطرتها عليها ربما العثمانيين فضلوا الولاء السياسي والعسكري على أخذ الضرائب من الكرد في تلك الفترة المبكرة (على، 1984، 96).

يمكن القول أن ما تتضمنه هذا الاتفاق قد تبين منه عدم التكافؤ لصالح العثمانيين إذ كان الأخير على كردستان واضحًا ذلك في تدخل الدولة العثمانية في تعيين الأمراء الكرد بصدور فرمان سلطاني وهو ما استغله من جهة أخرى، في الوقت نفسه يمكن القول أن هذه الاتفاقية تعد كخطوة إيجابية واعتراف رسمي من الدولة العثمانية بمشروعية الإمارات الكردية، بينما كان هناك اتهام من البعض لإدريس البدليسي بالعمالة والخيانة (حسين، 1995، 50 وما بعدها)، لكن مهما قيل عنه فإنه كان يتميز بمكانة خاصة عند السلطان العثماني والكرد أيضًا، ويمتلك شخصية قوية مكنته من القيام بدوره بغض النظر ما احتوته تلك الاتفاقية من جوانب إيجابية أم سلبية.

كما كانت تلك التغييرات أحيانًا تعود إلى العامل الذاتي حيث أن بعض الأمراء الكرد كانوا يبادرون إلى توسيع حدود إماراتهم على حساب الإمارات الأخرى حينما يروا في أنفسهم، وفي إماراتهم القدرة الكافية لتحقيق ذلك الهدف وكانت تلك الظاهرة سمة من سمات النظام الإقطاعي السائد آنذاك في كردستان (پی ره ش، 1980، 16).

وتوالت بعد ذلك الإجراءات العثمانية التي كانت تخل بالاتفاق المذكور وتحجم الاستقلال الداخلي للإمارات الكردية بإخلالها بسلطاتها إذ قامت الدولة العثمانية في النصف الأول من القرن الثامن عشر باتخاذ إجراء سياسي إداري أثرت في الإمارات الكردية في جنوبي كردستان وذلك عندما دفعت حاجتها إلى وجود قوة واحدة في العراق لتستطيع مواجهة الخطر الفارسي إلى الاعتراف بسلطة والى بغداد (حسن باشا) غير الاعتيادية فامتد نفوذ إيالة بغداد منذ ذلك الحين إلى ما وراء إيالة الموصل وضمت إليها مدينتي ماردين ونصيبين (رؤوف، 1975، 124).

وبموجب هذا الإجراء أصبحت الإمارات الكردية في جنوبي كردستان ومنطقة ماردين تتبع إيالة بغداد إداريًا (لونكريك، 1985، 158 و 213)، وتعين على أمرائها أن يؤدوا الضريبة إلى ولاة بغداد لقاء إقـرار الأخيرين لحكمهم ومنحهم الخلعة الرسمية سنويًا (نيبور، 1965، 75)، وآل الأمر في النهاية إلى احتفاظ والى بغداد بسلطة الإشراف على معظم الإمارات الكردية في كردستان الجنوبية (جودت، 1301هـ، 270)، وبالأخص إمارتي بادينان، وبابان إذ بقيت الأولى تابعة إيالة بغداد ولذلك نجد أن أمراء بادينان كانوا يتولون الإمارة بتفويض من والى بغداد خلال تلك الفترة (العزاوي، مج 4-7، 1955، 52- 53)، ولكن الوالي على باشا أقدم على وضع أمراء بادينان تحت إشراف والى الموصل عام 1806م (العمري، 1940، 15)، أما الثانية وهى إمارة بابان فإنها رغم تبعيتها لإيالة بغداد إلا أن درجة تلك التبعية كانت تتوقف قبل كل شيء على قوة شخصية الأمير البابانى ثم على قوة وسلطة والى بغداد بعد ذلك (هروتي، 2008، 114)، حيث أن قوة أمير بابان ونفوذه كانا من الأمور التي تساعده على الاستقلال بشؤون إمارته عن والى بغداد كما أن قوة شخصية الوالي (والى بغداد) وسعة نفوذه كانت مانعة لهذا الاستقلال فيؤدى ذلك إلى فرض سطوة بغداد على الإمارة حتى تكون أشبه بأحد سناجقها.

كذلك تدخل العثمانيون في صلاحية الإمارات الكردية في فرض الضرائب والمكوس الجمركية تلك الصلاحية التي اعترف بها كل من السلطانين سليم الأول وسليمان القانوني (1520-1566م)، ولكن العثمانيين كانوا ينظرون إليها أحيانًا كأنها أعمال سلب ونهب وقطع طرق العثمانيون فيما بعد لتحقيق مآربهم في ضرب هؤلاء الأمراء الذين يناؤونهم تنصيب الذين يسايرون السياسة العثمانية في محلهم لكن لا يمنع ذلك أن هذا الاتفاق أبرم بين قوتين غير متكافئتين من جميع النواحي خاصةً وأنه مازال مهددين بعدو مشترك هو الصفويين.

عهد السلطان سليم مهمة تحديد الوضع السياسي والإداري للإمارات الكردية إلى إدريس البدليسي حيث حاول الأخير بحكمته أن يجنبها السيطرة العثمانية بقدر المستطاع، كما أطلق اسم الحكومات الكردية على بعض الإمارات الكردية رسميًا (هروتي، 2008، 70).

والجدير بالذكر أن البدليسي كان معنيًا بتحديد علاقة الكيانات الكردية بالسلطات العثمانية فحسب، أما الإطار الشامل للتنظيمات الإدارية في المنطقة فكان يحدده المسؤولون العثمانيون وذلك بالاستناد إلى التنظيمات الإدارية العثمانية المتبعة في تلك الفترة (حسين، 2006، 78-85).

حاولت الدولة العثمانية إيجاد نظام حكومات الذى كان أشبه بالنظام الفدرالي على حد التعبير يهدف إلى تسهيل الأمور الإدارية حيث أن أحوال البلاد الخاصة ونزوع رؤساء العشائر فيها إلى السلطة وميل السكان الدائم إلى الحرية كانت تقتضى من العثمانيين إنشاء إدارة مستقلة عن الإدارة العثمانية المباشرة (زكي، 1939، 171-172).

إضافة إلى أن الدولة العثمانية لم تكن تريد خلق كيان كبير له إدارته المركزية في بلاد ذات طبيعة مستعصية، كما أن الأمراء وزعماء العشائر الكرد كانوا قد اشترطوا على البدليسي استمرارهم في حكم إماراتهم وعشائرهم عندما أعلنوا ولائهم للدولة العثمانية وبتلك السياسة ذات النظرة البعيدة ثم ضمان ولاء الكرد للدولة العثمانية (هروتي، 2008، 75).

وفي أحيان أخرى كانت الدولة العثمانية تستخدم بعض الإمارات الكردية لإخضاع الإمارات الأخرى التي لم تدخل ضمن السيادة العثمانية، فقد أصدرت السلطات العثمانية أوامرها لأمير بادينان سلطان حسين بك المذكور وزينل بك (أمير هكاري) مع زعماء إمارة برادوست بأمر من السلطان سليمان القانوني إمارة موكريانى التي رفضت الخضوع للسيادة العثمانية في عام 1543م وكانت النتيجة مقتل الأبناء الثلاثة للأمير رستم بن بابا عمرو الموكريانى (هروتي، 2008، 96).

ومن السبل الأخرى التي انتهجوا فيها سياسة (فرق تسد) محاولة هدم البنية السياسية للإمارات الكردية بخلق أسباب الشقاق داخل الإمارة الكردية الواحدة خاصة في مسألة تولية منصب الإمارة وذلك عندما كانوا يعمدون إلى تنصيب أميرين على إمارة واحدة في وقت واحد مثلما حدث في إمارة بابان للحد من أمراءها وحركاتهم المضادة للسلطات العثمانية (البدليسي، 1953، 292).

لعل كان هدف العثمانيون من تلك السياسة تحقيق منافع عدة منها إضعاف الكيانات السياسية في كردستان جراء استمرار النزاعات بينها وإشغال الإمارات والزعامات الكردية بالمشكلات الداخلية والحيلولة دون توسيع نفوذها وتوحيد كلمتها، إلى جانب تحقيق مكاسب مالية فكثيرًا ما كانوا يتقاضون مبالغ كبيرة من المال من الأمراء الكرد الطامعين في الحصول على منصب الإمارة لقاء تفويضهم رسميًا بالمنصب المنشود أو لقاء التوسط لهم لدى إستانبول.

في الوقت نفسه تضافرت عدة عوامل استفاد منها العثمانيين في تسهيل تنفيذ سياستهم المذكورة منها حالة كردستان السياسية المتمثلة في انقسامها إلى مجموعة إمارات إقطاعية وزعامات عشائرية متنافرة ومتناحرة حيث كانت النزاعات القائمة بسبب محاولة الحصول على مزيد من الامتيازات الإقطاعية أو الحفاظ على مناصبهم إزاء الخصم في بعض الأحوال يصبح دافعًا قويًا يدفعهم إلى الاستعانة بالدول المجاورة (مالكم، جـ2، 1323هـ، 110) لا شك أن تلك الدول كانت تنتظر تلك الفرصة، وساعد على ذلك عدم نضوج الشعور القومي في المنطقة بشكل عام وفي كردستان بشكل خاص مما أدى إلى عدم وجود قوة محلية رشيدة تتفهم المصلحة القومية وتحاول الحفاظ عليها.

ولعل ما تجدر الإشارة إليه تمتعت الإمارات الكردية طبقًا للاتفاق العثماني الكردي السابق بحالة شبه استقلال عن الدولة العثمانية وخاصةً فيما يتعلق بالشؤون الداخلية حيث احتفظت بإداراتها المحلية السابقة، واستمرت في حكم مناطقها ولم ترتبط بالحكومة المركزية إلا برابطة الولاء الأسمى وتقديم الالتزامات المالية والعسكرية لها وظل ذلك الاستقلال الداخلي معترفًا به رسميًا من قِبَل الدولة العثمانية في الفترات اللاحقة أيضًا. وقد أوضح ذلك الرحالة أوليا جلبى عند زيارته لكردستان في الربع الثالث من القرن السابع عشر الميلادي حيث ذكر عند وصفه لقلعة أكيل يقول « إلا أن أميرها ليس أميرًا عثمانيًا ولا يمكن عزله وإذا مات الأمير يرثه ابنه في منصبه لأنها حكومة مستقلة »، كذلك في وصف مدينة بدليس يذكر « عندما أطاع أمير بدليس السلطان سليمان أصبحت بدليس حكومة مستقلة » (جلبى، ج4، 1314هـ، 28، 105). أما الرحالة نيبور الذي جاء إلى كردستان في عام 1766م فصرح بأن «الكرد لا يرضون أن يعين عليهم الباشا "والى بغداد" حاكمًا تركيًا فهم يصرون على أن يترأسهم أحد رؤسائهم» (نيبور، 1965، 73).

يمكن القول أن العثمانيين كانوا يتدخلوا في الشؤون الداخلية للإمارات والزعامات الكردية كلما سنحت لهم الفرصة أو اقتضت مصالحهم ذلك إذ كانوا يخلقون المعاذير المختلفة ليتسنى لهم تنفيذ مآربهم في كردستان دون أن يمنعهم الاعتراف العثماني السابق بالاستقلال الداخلي لتلك الإمارات ظهر ذلك واضحًا عندما كانوا يحاولون عزل من يرغبوا من الأمراء وتنصيب الموالين لهم مستقلين في ذلك ضرورة الاعتراف العثماني بالأمير الجديد ليأخذ حكمه طابعًا رسميًا حسبما جاء في الاتفاق الكردي العثماني، ولكن المسؤولين العثمانيين استغلوا ذلك إلى حد بعيد حيث كانت تصدر فرمانات عزل ونصب حكام الإمارات الكردية من قِبَل الصدر الأعظم أو السلطان العثماني نفسه خلال الحقب الأولى من الحكم العثماني، ولكن تلك السلطة قد أعطيت فيما بعد إلى ولاة الولايات العثمانية الكبرى مثل بغداد وديار بكر إذ تم تخويل حكام تلك الولايات صلاحية عزل ونصب أمراء الإمارات الكردية التابعة إداريًا لولاءتهم (البدليسي، 1953، ص 225).

وإن كانت السلطات العثمانية لم تمتلك في الواقع حق عزل الأمراء الكرد حقًا مطلقًا فيذكر أوليا جلبى «لا يمكن تعيين وعزل هؤلاء الأمراء أى أمراء الحكومات الكردية ضمن إيالة ديار بكر - إلا في حالة واحدة وهى عدم اشتراكهم في الحروب التي يدعون إلى الاشتراك فيها» (جلبى، ج4، 1314هـ، 35)، ولكن المسؤولين العثمانيين استغلوا ذلك الامتياز الذى اعترف الأمراء الكردية لهم كما ذكرنا بل تطور بهم الأمر حتى أصبحت السلطات العثمانية صاحبة السلطة المطلقة في تعيين وعزل الأمراء الكرد وكانوا يرمون من وراء ذلك إلى إحكام قبضتهم السياسية على كردستان شيئًا فشيئًا وذلك إما عن طريق إبعاد الأمراء الكرد الذين يناوئون السيادة العثمانية على إماراتهم سواء عن طريق الحركات العسكرية أو التمرد والعصيان كما كانت تسميها الدولة العثمانية مثلما حدث في عام 1747م ضد سليم باشا بابان الذى كان قد رفض السيادة العثمانية على إمارة بابان وقطع علاقاته بالدولة العثمانية (هروتي، 2008، 105).

كذلك ضرب الأمراء الذين لهم طموحات سياسية لا تتناسب مع المصالح العثمانية ونقصد بذلك مبادرتهم إلى توسيع نفوذ إماراتهم أو محاولة بناء قوة إقليمية قد تهدد السيادة العثمانية في المنطقة، وخير مثال على ذلك هو «الأمير بدرخان باشا البوتانى» الذي وسع نفوذه حتى امتد إلى مناطق دان، ومهاباد، ورواندوز، والموصل، وسعى إلى الاستقلال فأدركت السلطات العثمانية خطورة تلك التطورات عليها وعملت على القضاء عليه (هروتي، 2008، 106).

اهتمت الدولة العثمانية بتنصيب الأمراء الموالين لها فعندما رفض الأمير البابانى إبراهيم باشا أن يشترك مع والى بغداد في قمع حركة عشائر المنتفك في جنوب العراق عام 1786م أمر الوالي بعزله وعين مكانه الأمير عثمان باشا الذى راح يسعى إلى تلبية الطلب فشارك بالقوات البابانية في الحملة المذكورة (البصري، 1991، 183).

وبالإضافة إلى دافع تقوية السلطات العثمانية السياسية في كردستان كانت هناك دوافع أخرى وراء عملية عزل وتعيين الأمراء الكرد من قِبَل المسؤولين العثمانيين وخاصةً مسألة المنافع المادية حيث كانت الرشاوى ودفع الأموال والهدايا التي كانت ترسل إلى المسؤولين العثمانيين تسبب في عزل الأمير الكردي عن إمارته وتولية من دفع تلك الإتاوات، فعلى سبيل المثال في إمارة هكاري لم يتمكن زكريا بك الذى كان وارثًا شرعيًا للإدارة من استرجاع منصبه إلا بعد أن دفع مبلغ مائة ألف فلورى (عملة إيطالية تساوى الواحدة منها نحو 200 دولار أمريكي) للمسؤولين العثمانيين (البدليسي، 1953، 135). كما أن الأمير عزيز بن كاك محمد قد حصل على دعم القائد العثماني فرهاد باشا -الذي كان قائدًا للقوات العثمانية في الشرق في الرابع الأخير من القرن السادس عشر- (لونكريك، 1985، 2) ليحصل على إمارة بوتان عندما وعده بمبلغ 112 ألف فلورى وقد تم له ما أراده فعلاً حتى أن فرهاد باشا قام بقتل منافسه الأمير ناصر بن خان إبدال ليزيل العقبات أمام بلوغه المنصب المنشود (البدليسي، 1953، 161-162).

أما الدافع الآخر فكان مسألة الوساطة الشخصية والصداقة والتقرب من المسؤولين حيث كانت هناك حالات عزل وتعيين ساهمت الصداقة الشخصية بدورًا بارزًا فيها فقد عين عمر باشا والى بغداد (1764-1775م) الأمير سليمان باشا على إمارة بابان لما بينهما من صداقة سابقة وذلك بعد أن عزل أحمد باشا بابان في عام 1763م كما عزل المسؤولون العثمانيون الأمير مصطفي بك عن إمارة بالو في عام 1784م رغم خدماته الجليلة أثناء الحرب العثمانية الروسية (1768-1774م) وذلك لترضية طموحات ابن أخيه قاسم بك الذى تقرب من أولئك المسؤولين (ناظم بيك، 2001، 116- 117).

أما التهمة الأكثر شيوعًا فهي تهمة التمرد والعصيان أو محاولة الانفصال والاستغلال التي وجهت إلى الأمراء الكرد في كثير من الأحيان وخاصة إلى أمراء بابان حيث كان العثمانيون يوجهون تهمة التمرد والعصيان إلى الأمير الذى كان يطمح إلى شيء من الاستقلال ويعمل على خدمة إمارته بتفان وإخلاص فقد عدّ والى بغداد حسن باشا الأمير البابانى بكربك متمرد أو شقيًا لمجرد أنه حاول تقوية نفوذه وتوسيع سلطاته فجهز حملة عسكرية بقيادته أدت إلى اندحار بكربك ثم قتله فيما بعد (هروتي، 2008، 109- 117).

يضاف إلى ذلك سببًا آخر وراء عزل بعض الأمراء الكرد وهو عدم المساهمة في المجهود الحربي العثماني فقد أقدم والى بغداد على باشا (1802-1806م) على عزل الأمير البادينى مراد خان باشا في عام 1803م لأنه لم يساهم على رأس قواته في حملة الوالي علي سنجاربل اكتفي بإرسال مائة مقاتل فقط (العزاوي، 1998، 51).

كذلك استفاد العثمانيون من النزاعات القائمة بين الأمراء الكرد حول منصب الإمارة حيث سعى الأمراء المتنافسين للحصول على البراءات السلطانية للإمارة لما هذه البراءات من قيمة معنوية يرجح كفتهم جعل العثمانيين يستغلون ذلك لتمرير مطالبهم وتحقيق نواياهم على حساب الإمارات الكردية. وكانت تلك الظاهرة أكثر وضوحًا في إمارة بابان من غيرها لأن التناحر الأسرى فيها كانت على أشدها كما أن العثمانيين استغلوا مكانة السلطان وأهمية فرماناته بنظر عامة الناس (البدليسي، 1953، 161-165) 

ولم يكتف العثمانيون بذلك بل كانوا في بعض الأحيان يتجاوزون حدود عزل الأمراء الكرد ويعمدون إلى قتل بعض الأمراء غدرًا كما فعل الصدر الأعظم فرهاد باشا الذي قتل الأمير ناصر البوتانى في عام 1583م وأسند إمارة بوتان إلى منافسه الأمير عزيز بن كاك محمد (البدليسي، 1953، 164).

على أية حال لقد أدت تلك السياسة العثمانية إلى حالة من عدم الاستقرار في أوضاع الإمارات والزعامات الكردية، وانعدام الطمأنينة والسلام في ربوعها مما أسفر عن تأخر تطور كردستان من النواحي السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية كما فقدت الإمارات الكردية استقلالها الداخلي شيئًا فشيئًا جراء تدخل السلطات العثمانية في مسألة منصب الإمارة، كما أن خوف الأمراء الكرد الدائم من العزل والتنحية من قِبَل السلطات العثمانية قد أدى بهم إلى انتهاج سياسات موالية لها وعدم الإتيان بما تعارضها الدولة العثمانية وبذلك أصبح الأمير الكردي الراعي لمصلحة إمارته شخصية نادرة بين الأمراء الكرد.

ومن ناحية أخرى لجأت السلطات العثمانية إلى سياسة جديدة تجاه الإمارات الكردية وهو التدخل في شؤونها بما يخل بالاتفاق الكردي العثماني السابق من ذلك في عهد السلطان سليمان القانوني. ظهرت محاولات بتر منطقة معينة من إمارة كردية معنية تحت تأثير ظروف خاصة على سبيل المثال استقطع بعض المناطق (الدائرة للخيرات) من إمارة جمشكزك الكردية وضمها «إلى الخواص الهمايونية» مستغلاً المنازعات التي نشبت بين أبناء الأمير بير حسين بك حول الإمارة إثر موت والدهم والتجائهم إلى السلطان ليحكم بينهم (البدليسي، 1953، 189).

وفيما يتعلق بتعديلات الحدود وتغيير مناطق النفوذ يمكن عدّ إمارة بابان خير مثال على ذلك، إذ أن كثرة تلك التغييرات وسرعته جعلت رسم خارطة سياسية لتلك الإمارة أمرًا صعبًا إن لم يكن مستحيلاً ويعود ذلك إلى عدم استقرار أوضاعها السياسية نتيجة النزاع المستمر بين أمراء بابان أنفسهم من جهة وبينهم وبين ولاة بغداد.

وبهذا الشكل تناسى العثمانيون أن بنود الاتفاق الكردي العثماني قد حفظت للإمارات والزعامات الكردية استقلالاً داخليًا وكانوا يقومون في كثير من الأحيان بما يعد تدخلاً في الشؤون الداخلية للإمارات الكردية.

أولاً-موقف الإمارات الكردية من السياسة العثمانية

اندلعت الثورات والانتفاضات في كردستان خلال العهد العثماني ردًا على سياسة الدولة العثمانية للدفاع عن مصالحهم وحقوقهم المشروعة، وتحسين أحوالهم المعيشية التي ساءت جراء انتزاع ممتلكاتهم أو مناصبهم من قِبَل السلطات العثمانية.

كان من أشهر هذه الانتفاضات؛ انتفاضة ابن جان بولاد والتي جاءت أحداثها في قيام القائد العسكري العثماني جغالة زادة سنان باشا في عام 1605م بقتل الأمير (حسين بك بن جان بولاد بك) أمير كلس (بولاية حلب) الذي كان قد أصبح واليًا على إيالة حلب في السنة نفسها وذلك بدعوى تخلفه عن المشاركة في حرب الدولة الصفوية إلى جانبه حينما دعاه إلى ذلك (زكي، 1939، 186).

فقد عدّ القائد العثماني المذكور عدم مشاركة الأمير حسين باشا سببًا للهزيمة التي مُنىّ بها أمام الصفويين في أطراف (سلماس) الواقعة بأذربيجان الغربية في عام 1605م وقد أدت تلك الحادثة إلى غضب الأمير على بن جان بولاد بك أخو الأمير حسين باشا فتوجه إلى حلب ليعلن عن انتفاضة مسلحة ضد الدولة العثمانية توسع نطاقها لتشمل الانتفاضة أطراف الشام وقراها حيث مد الأمير نفوذه إلى مدينة طرابلس الشام (هروتي، 2008، 145). إضافة إلى حمص وبعض النواحى الأخرى في الشام فلما ترسخ نفوذه أعلن استقلاله إذ تم له تأليف جيش كبير وسك باسمه النقود كما ذكر اسمه في الخطب (زكي، 1939، 186).

استغل المنتفضون فرصة انشغال الدولة العثمانية بمحاربة النمسا في إشعال نار الانتفاضة للمطالبة بحقوقهم المشروعة فتحركت الدولة العثمانية بإرسال حملة بقيادة الصدر الأعظم مراد باشا الملقب بـ (قويوجى) في عام 1607م والتقى بزعيم الانتفاضة ابن جان بولاد في سهل أورج أسفرت عن هزيمة الجيش الكردي متكبدًا خسائر جسيمة في الأرواح. واضطر ابن جان بولاد إلى الانسحاب إلى مدينة حلب التي لم يستطع الصمود فيها فطالب العفو من السلطات فوافق وعُين واليًا لتيمشوارا (إحدى مقاطعات بلاد النمسا الخاضعة آنذاك للعثمانيين وتقع حاليًا في رومانيا) التي لم يبلغها قط حيث لم يرق هذا العفو للصدر الأعظم فأرسل من يقتله في بلغراد وهو ذاهب إلى مقر عمله الجديد (زكي، 1939، 187؛ المحامي، 1977، 120).

ظهرت انتفاضة أخرى عرفت باسم «أكراد المللي» بقيادة تيمور باشا رغم أنه لم يكن أميرًا على إمارة كردية ذات سلطة سياسية بل برز بشكل زعيم قبلي اضطلع بمهام القيادة في عشائر المللي وانتفاضها ضد السلطات العثمانية، كانت عشائر المللي القاطنة في نواحي طور عابدين وقره جه داغ من منطقة ماردين معروفة بقوة شكيمتها وتمردها، وعدم خضوعها للسلطات العثمانية، ولذلك كانت مناطقها في اضطراب دائم ومشحونة بالمشكلات والأخطار بالنسبة للعثمانيين، واكتسبت هذه العشائر قوة إضافية عندما تسلم تيمور باشا مقاليد أمورها والمذكور ينتمى إلى أسرة كردية عريقة. وقد تولى مناصب مهمة في إستانبول ولكنه كان يبحث عن الفرصة التي يستطيع فيها الخروج من العاصمة فتم له ذلك والتحق بالعشائر المللية في بداية العقد الأخير من القرن الثامن عشر ليتم رئاستها (أبو بكر، 1973، 21).

كان تيمور باشا يدرك أن العثمانيين يمثلون له حجرة عثرة في تحقيق أهدافه، لذلك أخذ منذ تسلمه مهام قيادة المللية يسعى إلى تقوية قواته وتوسيعها وتجهيزها بالأسلحة والمعدات الحربية حتى تألف له جيش قوى يضم محاربين أشداء لاحتمال اصطدامه بالدولة العثمانية يومًا ما؛ لذا اعتمد على ذلك الجيش لتوسيع نطاق نفوذه ليشمل بعض المناطق والعشائر المجاورة الأمر الذى أدى إلى هلع الحكام العثمانيين المجاورين وخاصةً واليا حلب وديار بكر إذ أصبحت تحركات تيمور باشا مصدر خطر على النفوذ العثماني في تلك الأنحاء ومما زاد العثمانيين غضبًا عليه هو عدم التفاته إلى السلطات العثمانية وقيامه بنشاطات معادية لها على جميع الطرق المؤدية إلى ديار بكر، وحلب والموصل، وإزاء ذلك بذل العثمانيون محاولات عدة للقضاء على ذلك الزعيم الكردي ولكنهم فشلوا في تحقيق ذلك (لونكريك، 1985، 253؛ العزاوي، مج 4-7، 1955، 110).

وعندما توسع نفوذ تيمور باشا تحرك العثمانيون وعهدوا إلى والى بغداد سليمان باشا الكبير مهمة التصدي له نظرًا لأن مناطق الانتفاضة (وهى نواحي ماردين) كانت في تلك الفترة تدخل ضمن حدود إيالة بغداد (العمري، 1940، 23؛ لونكريك، 1985، 252). وبعد أن جهز سليمان باشا حملة واسعة النطاق في عام 1791م توجه نحو الموصل ومنها إلى ماردين ليبلغ تعداد جيشه ثلاثين ألف مقاتل بعد أن التحق به واليا الموصل وأورفه بقواتهما وذلك بالإضافة إلى قوات إمارة بابان والكثير من العشائر العربية التي كانت بمعية الوالى. أما تيمور باشا فكان قد جمع ما يقارب (15) ألف مقاتل تقريباً. لذلك لم يتمكن صد الصمود إذ رأى عدم قدرته على مقاومة الجيش الزاحف فتشتت شمل قواته والتجأ إلى نواحي حلب (زكي، 1939، 220-221).

بالرغم من ذلك فقد مدّت القوات المهاجمة يد البطش إلى مناطق المللين فتعرض سكان تلك المناطق لأنواع الدمار والخراب فأصبحت الممتلكات لقمة سائغة لجنود سليمان باشا الذين عادوا من الحملة بغنائم وافرة. وبعد أن عمد سليمان باشا إلى إعدام بعض زعماء المللي من أقرباء تيمور باشا ومنهم أخوة سعدون بك وابن عمه محمود بك، عين إبراهيم بك أخا تيمور باشا زعيمًا لعشائر الملي (زكي، 1939، 221؛ أبو بكر، 1973، 22).

ومع ذلك لم يتخل المليون عن مواقفهم المعادية للعثمانيين بصورة نهائية، إذ واصلوا تحركاتهم فيما بعد وخاصةً عندما تسلم أيوب بك الزعامة بعد إبراهيم بك فاصطدموا مرات عدة بالقوات العثمانية (هروتي، 2008، 148).

كذلك قامت انتفاضة عبد الرحمن باشا البابانى الذي تولى إمارة بابان عام 1789م وحكمها ما يقارب أربعًا وعشرين سنة في مدد متقطعة (زكي، 1939، 227) بلغت الإمارة في عهده أعلى درجات القوة والعظمة إذ توسعت حدودها كثيرًا حتى ضمت إليها أربيل ونواحيها، كما هددت بالاستيلاء على مدينة كركوك (لونكريك، 1985، 280؛ ناظم بيك، 2001، 274). وصار لأمير بابان نفوذ على إيالة بغداد نفسها فكان تعيين عبد الله باشا الخزنة دارك (1810-1812م) واليًا على بغداد أثر مقتل سليمان باشا الصغير في عام 1810م بتعضيد من عبد الرحمن باشا وتأثيره (فائق بك، 1962، 40). استغل عبد الرحمن باشا سلطته في تطوير قواته العسكرية تحسبًا للتقلبات اللاحقة فقد نقل كمية من الأسلحة والمعدات العسكرية بينها عدد من المدافع من إيالة بغداد إلى السليمانية خلال تلك الفوضى التي نشبت أثناء حادثة تنصيب عبد الله باشا على بغداد (هروتي، 2008، 49).

ولما نجح عبد الرحمن باشا في النهوض بإمارته حاول إبعاد إمارته عن السيادة العثمانية وتأثيراتها وبالأخص تدخلات إيالة بغداد التي كانت بابان تابعة لها (لونكريك، 1985، 179- 180). الأمر الذي عرضه للاصطدام بقوات إيالة بغداد مرارًا فقد اشتبك مرتين مع تلك القوات في مضيق بازيان ولكنه انهزم في كل منهما لخيانة ابن عمه خالد باشا واتساع نطاق إمارته لتضم أطراف أردبيل (ناظم بيك، 2001، 274؛ العزاوي، 2000، 1999). الأمر الذي جلب إليه حنق الوالي وغضبه فزحف عليه عبد الله باشا والى بغداد بجيش كبير والتقيا في كفري (التابعة لكركوك) في عام 1812م فوقعت بينهما معركة دامية انتصرت فيها قوات بابان في بداية المعركة ولكن صمود قوات بغداد قلب الموقف فانهزم عبد الرحمن باشا مع بعض رجاله إلى إيران تاركًا وراءه قوات بغداد ليشيدوا منارة من رؤوس قتلى الكرد (فائق بك، 1962، 45- 46؛ ناظم بيك، 2001، 275).

وبالرغم من عودة عبد الرحمن باشا من إيران بعد هذه الواقعة وتسلمه مهام الأمور في السليمانية، ولكنه توفي بعد ذلك في عام 1813م وبذلك لم تثمر جهوده عن تحقيق أهدافه بالرغم من طموحاته الكثيرة ومقدراته الكبيرة ويرجع ذلك إلى أسباب عدة في مقدمتها النزاعات العائلية التي أدت إلى خيانة أقرباء عبد الرحمن باشا له (زكي، 1939، 228؛ ناظم بيك، 2001، 275).

وذلك بالإضافة إلى قوة ولاة بغداد المعاصرين لعبد الرحمن باشا وحنكتهم السياسية حيث كان لهؤلاء دور مؤثر في إفشال مخططاته، كما أن الظروف السياسية العامة في الدولة العثمانية لم تكن مساعدة للأمير البابانى، فقد عاصر عبد الرحمن باشا فترة كانت الدولة العثمانية تحاول فيها استعادة أنفاسها وتقوية ساعدها ونقصد بذلك عهد السلطان محمود الثاني (1808-1839م) الذي حاول بإصلاحاته إعادة بناء الدولة على أسس جديدة (هروتي، 2008، 151).

ومع اصلاحات السلطان محمود الثاني فقد أمر بتطبيقها في كردستان بالرغم من تمتع الأخيرة بنوع من الاستقلال الذاتي في ظل كياناتها المحلية بموجب الاتفاق الكردي العثماني السابق، كما أنه لم يأخذ موقع كردستان الحدودي ومجاورتها لإيران وروسيا بنظر الاعتبار رغم أن الضغط عليها كان يشكل فرصة سانحة للدولتين الأخيرتين للتدخل في شؤون الدولة العثمانية (العزاوي، مج 4-7، 1955، 43). وبذلك فقد حاول السلطان إنهاء حكم الإمارات الكردية وتأسيس قواعد الحكم المباشر في كردستان مما كان يعنى إلغاء الاتفاق الكردي العثماني نهائيًا وفرض الهيمنة العثمانية المباشرة على كردستان وإنهاء الإمارات الكردية القائمة.

لكن كانت هناك عوامل تقف وراء محاولة فرض سياسة المركزية في أنحاء الدولة العثمانية في مقدمتها محاولة إعادة الحياة إلى مؤسسات الدولة وتقوية السلطة المركزية، وحماية الدولة من التحلل والتفكك (رؤوف، 1975، 189).

ولكن بالإضافة إلى تلك العوامل هناك دوافع أخرى أثرت في تنفيذ تلك المهمة في كردستان لعل أبرزها محاولة قطع السبل أمام الدولتين الإيرانية والروسية للتدخل في الشؤون العثمانية الداخلية، فمن المرجح أن المسؤولين العثمانيين قد ضاقوا ذرعًا بتدخلات الدولتين المذكورتين اللتين كانتا تتخذان من الكيانات الكردية وسيلة لتلك التدخلات خاصة وأنها كانت قريبة من حدود الدولتين وتعرف بموافقها المناوبة للسيادة العثمانية عمومًا، ومن جانب آخر كان العثمانيون يرمون من وراء تلك العملية ضرب الحركة القومية الكردية التي كانت في بدايتها آنذاك وذلك بهدم الكيانات السياسية التي كانت تقوم عليها تلك الحركة خلال هذه الفترة حيث أن جميع الحركات والانتفاضات الكردية كانت حتى تلك الفترة توجه من قبل الأمراء الكرد الذين كانوا حكام تلك الإمارات، وبالإضافة إلى ذلك فإن الدافع الاقتصادي المتمثل بزيادة واردات الدولة من كردستان بإحكام السيطرة عليها واستغلالها ماديًا كان يعد دافعًا مهمًا لهذه العملية في كردستان فقد بادرت السلطات العثمانية إلى فرض ضرائب إضافية في المناطق الكردية في أعقاب الحملة العثمانية التي وجهت إليها لغرض الحكم المركزي مباشرة (برانت، 1989، 49). وفي الوقت نفسه لمساهمة في حل الأزمة الاقتصادية التي كانت تمر بها الدولة العثمانية في ذلك الوقت.

إلى جانب تلك الدوافع كان هناك دافع آخر وراء عملية فرض الحكم المركزي على كردستان هو دافع التجنيد حيث كانت الدولة العثمانية تسعى من وراء هذه العملية هو توفير الرجال للجيش النظامي الجديد الذى تأسس حديثًا ويراد تطويره، وبالرغم من كل ذلك لا تخرج عملية القضاء على الإمارات الكردية عن إطار المحاولات العثمانية الهادفة إلى اصلاح دولتهم التي تخلفت عن ركب التطور من وجهة نظر العثمانيين ولكنها كانت خرقًا عثمانيًا كاملاً للاتفاق الكردي العثماني المبرم في عام 1514م وعملية إعادة احتلال شاملة لكردستان وجهة نظر الكرد.

ومهما يكن فإن الاصلاحات العثمانية طبقت في كردستان بوجهها السلبي أما دعوات المساواة وتنظيم النظام الضريبي، وتحديد الخدمة العسكرية وغيرها من القوانين المتعلقة بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فإن آثارها لم تلحظ في كردستان سوى أن الاصلاحات العسكرية وإعداد الجيش الجديد، وبإشراف الخبراء الأوروبيين ترك آثاره الواضحة على كردستان باسم الاصلاحات من خلال الحملات العسكرية العثمانية في الوقت الذى فشل فيه ذلك الجيش في المحافظة على حدود الدولة العثمانية.

نتيجة لما سبق ظهرت موجات استياء عارمة من قِبَل الكرد تجاه السياسة العثمانية التعسفية ضدهم وقد شجعهم على ذلك الاضطرابات السياسية والعسكرية التي مرت بها الدولة العثمانية في ذلك الوقت خاصةً بعد هزيمتها أمام روسيا في حرب عامي 1828-1829م، وانتصار اليونانيين في حرب المورة والحصول على استقلالهم عام 1831م، فضلاً عنما انتاب الإدارة العثمانية من التخلف، والظلم، والقيام بعلميات السلب والنهب لممتلكات الكرد خاصة وأن غالبية الحكام والموظفين كانوا قد اشتروا مناصبهم بالأموال والرشاوى مما دفعهم إلى السعي جاهدين لتعويض تلك الأموال على حساب الأهالي، ولذلك كانت الرشوة والفساد منتشرة في جميع مؤسسات الدولة (مولتكه، 1988، 77-79).

لذا بدأت عدة حركات وانتفاضات كردية ضد السلطات العثمانية من أهمها انتفاضة الأمير السوراني محمد باشا المشهور بـ(باشاى كه وره) الذى كان يوسع حدود إمارته على حساب الأقاليم المجاورة بهدف بناء كيان سياسي كردى، وقد بذلت إمارة بوتان محاولة مشابهة في عهد أميرها بدرخان بك - باشا فيما بعد فأصبحت الإمارة أشبه بحكومة مستقلة لا تعد الباب العالي أية أهمية منذ بداية الثلاثينات من القرن التاسع عشر، وفي عام 1829م نشبت الانتفاضة في بعض مناطق هكاري وأخذت تتوسع تدريجيًا في المناطق المجاورة (هروتي، 2008، 182- 183).

كما أصبحت بعض المناطق في الجهات الشمالية من كردستان بمنأى من السيطرة العثمانية خلال تلك الفترة وخاصةً مناطق وان وبايزيد. أما البقاع الواقعة بين أرضروم وخوى فأصبحت منطقة صعبة الاختراق حتى لساعي البريد العثماني لأن الكرد في هذه المنطقة لم يكونوا يعترفوا بأية سلطة عليهم في تلك الفترة، أما منطقة درسيم الوعرة الكائنة في أقصى شمالي غربي كردستان فقد ظلت تناوئ السيادة العثمانية باستمرار إذ كان أبناء تلك المنطقة المعروفون بأكراد الزازا مصرين على إدارة أنفسهم بأنفسهم بعيدًا عن السلطات العثمانية وقاوموا في سبيل ذلك حملات عثمانية عديدة حاولت إخضاعهم بالقوة. ويمكن القول أن الاتصالات خلال تلك الفترة كانت شبه معدومة بين بغداد وإستانبول إذ كان شرقي الأناضول عمومًا أشبه ما يكون تحت سيطرة الزعماء الكرد وخارجة عن السلطة العثمانية (هروتي، 2008، 183).

لكن سرعان ما استعادت الدولة العثمانية أنفاسها في كردستان وإخضاعها للحكم المركزي عقب توقيع عقد صلح كوتاهية مع مصر في 8 نيسان 1833 ومعاهدة خونكار أسكله سى مع روسيا عام 1833 (أحمد، 1986، 162-163). مما فرض عليها الدخول في مقاومة شديدة مع الكرد لعدم قبول الأخيرة الخضوع للسلطات العثمانية.

يمكن القول أن الكرد بذلوا جهود في مواجهة السلطات العثمانية؛ ويرجع ذلك إلى عدة دوافع هي رفض الكرد للسلطة العثمانية المباشرة ومحاولة الحفاظ على كياناتهم السياسية واستقلالهم الداخلي التي كانت مهددة من قِبَل العثمانيين، كذلك نفور الكرد من العثمانيين وسيطرتهم الجائرة ورفضهم للإجراءات العثمانية الجديدة وخاصة التجنيد، والضرائب الإضافية التي كانت ضمن أهداف الحملة العثمانية الجديدة على كردستان، كما أن الأمراء والزعماء الكرد الذين كانوا قادرين على حث رعاياهم على الانتفاضة كانوا يحاولون الحفاظ على سلطاتهم السياسية وآخرون منهم على ممتلكاتهم الإقطاعية المهددة من قِبَل العثمانيين في هذه الحملة لذلك بادروا إلى المقاومة واتخاذ موقف الدفاع.

بدأت التحركات العثمانية بتوجيه حملة إلى كردستان بقيادة محمد رشيد باشا والى سيواس فبدأ هجماته على شمال كردستان عام 1834م وقام بنهبها ورغم ذلك لم يستسلم الكرد بل تصدى للجيش العثماني في بعض المواقع الحصينة في جنوبي بحيرة وان في إقليم هكاري حيث لم يتمكن العثمانيون من القضاء على نفوذ الزعماء الكرد وسلطتهم هناك. كما لم تستطع قوات محمد رشيد باشا من الظهور في جبال (موش جاسو) شرقي تركيا، أيضًا (يحيى، 1992، 20). والجدير بالذكر أن الأرمن كانوا يشاركون الكرد أيضًا في محاربة الجيش العثماني في بضع المناطق فقد عثر (جيمس برانت) أثناء زيارته لكردستان على دلائل تبرهن على ذلك بالرغم من إنكارهم لذلك خوفًا من العثمانيين إذ بادر أحد الجنود العثمانيين الذين شاركوا في الحملة وكان حاضرًا هناك قائلاً لبرانت «أن الأرمن كانوا عنيدين في مقاومتهم لنا تمامًا مثل المسلمين» (برانت، 1989، 47).

وبالرغم من كل ذلك أصر محمد رشيد باشا على القضاء على المقاومة الكردية بقوة متناهية، وقد لجأ في سبيل ذلك إلى تهجير بعض الجماعات الكردية إلى الأقاليم البعيدة من الدولة العثمانية مما أدى إلى موت أعداد كبيرة من العجزة والأطفال منهم.

لكن في الوقت نفسه كانت هناك عدة عراقيل منعت الحملة من تحقيق أهدافها الرئيسة منها نقص المؤمن اللازمة للجنود مما اضطرهم إلى القيام بأعمال النهب والسلب بالمدن التي يمرون بها (هروتي، 2008، 187).

ثانياً: سقوط الإمارات الكردية وإعادة فرض السيادة العثمانية على كردستان 1836-1851

كانت كردستان قد قسمت واستمر تقسيمها خلال القرن التاسع عشر بين الدولتين العثمانية والإيرانية، وكان الصراع بينهما مستمرًا من أجل فرض السيطرة على أكبر جزء ممكن من كردستان في الوقت الذى كانت فيه الدولتان تعانيان من الضعف وتتجهان أكثر فأكثر للخضوع للنفوذ السياسي والاقتصادي وحتى العسكري للدول الأوروبية الكبرى والتي كانت قد دخلت هي نفسها في صراع من أجل اقتسام مناطق النفوذ في الشرق الأوسط بشكل عام والدولة العثمانية بشكل خاص، ومن جانبها فإن كردستان كانت مقسمة بين عديد من الإمارات مثل (بابان سوران بادينان بوتان هكاري) وكانت في تنافس مستمر على توسيع رقعتها. لذلك كانت حدودها في تبدل مستمر بالإضافة إلى الإقطاعيات الواسعة التي كانت تخضع لحكم وقوانين الإقطاعيين (جليلي جليل، 1987، 11).

مرت الإمارات الكردية بعدة مراحل في سقوطها وصولاً إلى استقلالها عن الدولة العثمانية، كانت أولى هذه الإمارات إمارة سوران بدأت أولى مراحلها في عهد الأمير محمد باشا عندما تولى الإمارة في عام 1813م حيث جنح إلى الانفصال عن الحكم العثماني لتأسيس كيان كردى موحد مستغلاً ضعف الدولة العثمانية في ذلك الوقت من ناحية وضعف الإمارات الكردية المجاورة خلال تلك الفترة وخاصة إمارتا بابان وبادينان وانشغالهما بمنازعاتهما الداخلية حول منصب الإمارة فنجح الأمير محمد باشا في تحقيق طموحاته سواء في تطوير الأمور الدفاعية والعسكرية أم الإدارية والأمنية، والمالية، ولم يكتف بذلك بل اتخذ خطوات مشهودة في طريق الاستقلال عن الدولة العثمانية إذ كان اسمه يذكر في خطب الجمعة، كما ضرب النقود باسمه (موكريانى، د.ت، 41؛ نيكيتين، 1967، 171).

ركز الأمير محمد في بدايات العقد الرابع من القرن التاسع عشر جهوده على المناطق الواقعة إلى الشمال والغرب من إمارته وبالتحديد الأقاليم التابعة لإمارة بادينان والمناطق الكردية الإيزدية في سنجار والشيخان خاصةً عندما قام أمير الإيزديين على بك بقتل زعيم العشائر المزورية (على آغا الباليه ته يى) مما أدى إلى لجوء ابن أخيه (ملا يحيى المزوري) إلى الأمير السورانى طالبًا الانتقام له من على بك الإيزدى، ومن أمير بادينان الذى كان له ضلع في هذه الحادثة حسب اعتقاد الملا يحى (زكي، 1939، 229؛ الموصلي، 1923، 306- 307). وكانت تلك الحادثة بمثابة الحجة التي يتزرع بها الأمير لمهاجمة تلك المناطق التي كان ينوى الاستيلاء عليها دون شك وزاد في تشجيعه على ذلك لجوء موسى بك إليه طالبًا معاونته للحصول على منصب إمارة بادينان، وخلع أخيه سعيد باشا الذي كان يحكم الإمارة آنذاك (العزاوي، 2000، 54؛ لونكريك، 1985، 343).

كما أنه لا يمكننا أن نستبعد العامل الدينى في الهجوم السورانى على تلك المناطق، فقد وصف الأمير محمد من قبل أغلب المؤرخين بأنه كان متدينًا وحاول تطبيق نصوص الشريعة الإسلامية في حكمة (زكي، 1939، 231). وخاصة عندما أفتى له عالمه الديني ملا محمد الخطى. باستباحة دماء الإيزديين، الأمر الذى حرك الحمية الدينية لديه ولدى قواد وجنوده أيضًا (المائي، 1960، 167).

ومن ثم أعمد الأمير السورانى حملة عسكرية خرج على رأسها في عام 1832م أحدث من خلالها مجزرة مروعة في الكود الإيزديين كما أمر بقتل زعيمهم على بك واستولى على مناطقهم في الشيخان وسنجار، واستولى كذلك على عقرة، زاخو، ودهوك، وآميدي وبذلك تمكن من إلحاق إمارة بادينان بأكملها بإمارته (الموصلي، 1923، 307).

وبالرغم من حرص الأمير السوراني إلا أنه اصطدم بالدولة العثمانية عندما كلفت الأخيرة محمد رشيد باشا بالقضاء عليه كما ذكرنا سابقًا ولا شك أن تلك المهمة تُعد من المحاولات العثمانية لتقوية السلطة المركزية وفرض الحكم المباشر على أقاليم الدولة العثمانية في إطار اصلاحات السلطان محمود الثاني، كما ذكرنا سابقًا ولكننا نستطيع الإشارة إلى عوامل أخرى ساهمت في توجيه تلك الحملة أيضًا منها أن الدولة العثمانية أرادت تقوية سيطرتها في كردستان لتأمين ظهر جيشها عندما تبدأ الجولة التالية من المواجهة مع قوات إبراهيم باشا في الشام (إسماعيل، 1971، 327).

ومما يرجح هذا العامل وجود إشارات تفيد بأن اتفاقًا قد تم بين الأمير السوراني وإبراهيم باشا في الشام على تقديم المساعدة لبعضهما البعض ضد الدولة العثمانية، ولا شك في أن المسؤولين العثمانيين قد أحيطوا العلم بذلك فأرادوا القضاء أولاً على محمد باشا السوراني ليتفرغوا بعد ذلك للقوات المصرية في الشام (الكوراني، 1939، 133).

بدأ محمد رشيد باشا هجماته على المناطق التابعة لإمارة سوران عام 1836م فهاجم زاخو واستولى عليها بعد أن حاصرها ثم توجه نحو الموصل، وعندما علم محمد باشا بذلك انسحب إلى رواندوز وأمر بتحصين المناطق التي كانت تقع في طريق الجيش العثماني وفي إطار خطوة دبلوماسية من جانبه أرسل مبعوثًا إلى الحكومة القاجارية عارضًا عليها العمل المشترك ضد الجيش العثماني مقابل تعهده بإعلانه الانضمام إلى الدولة القاجارية ولكنه جوبه بالرفض نظرًا لعداء المسؤولين القاجاريين له وعدم نسيانهم هجماته على المناطق التابعة لهم وتأثير الضغط البريطاني الروسي، فرغبة روسيا في المحافظة على مصالحها في إيران جعلتها تعادى الحركات المناوئة للحكومة القاجارية، كذلك بريطانيا التي أرادت الحفاظ على مصالحها في تلك المنطقة أيضًا ولتأمين الطريق الذى يمر عبر المنطقة إلى بلاد الهند التي تُعد درة التاج البريطاني لذا جاءت الدبلوماسية البريطانية في العمل على تضامن الدولتين العثمانية والقاجارية للقضاء على الأمير السوراني وحركاته التوسعية للوقوف في وجه الزحف الروسي باتجاه الجنوب من ناحية ولخوف بريطانيا من احتمال إعلان أمير سوران الولاء للحكم المصري القائم في سوريا من ناحية أخرى لذا سارعت بريطانيا بعملية القضاء على الأمير محمد باشا (نوار، 1968، 104-107؛ إسماعيل، 1971، 321.).

إلا أنه يبدو أن جميع هذه المساعي قد رفضت من قبل السلطات العثمانية وخاصة من قبل محمد رشيد باشا الذي لم يكن مستعدًا لتقاسم انتصاراته مع أية جهة أخرى بحجة أن هذه الوساطة تعد تدخلاً في شؤون الدولة العثمانية، كما عدّ العرض الإيراني مناورة تهدف إلى التدخل في كردستان العثمانية وحذرت السلطات العثمانية إيران من محاولة دخول أراضيها (نوار، 1968، 105- 106).

وعندما وصل الجيش العثماني إلى مناطق بادينان أرسل الأمير محمد جيشًا بقيادة أخيه رسول بك مع سعيد باشا وإسماعيل باشا (أمير بادينان) وكان الأخير قد صالح الأمير السوراني مؤخرًا لملاقاة الجيش العثماني إلا أنهم لم يصلوا في الوقت المناسب إذ سبقهم الجيش العثماني الذى هاجم آميدي من الموصل، واستولى عليها مستغلاً غياب إسماعيل باشا الذى كان مسؤولاً عن الدفاع عنها، وترك العثمانيون حامية صغيرة في قلعة آميدى ليهاجموا المناطق الأخرى فتحين إسماعيل باشا الفرصة حين وصله المدد فهاجم القلعة وأعاد السيطرة عليها، وتمكن من الدفاع عنها ضد المحاولات العثمانية لإعادة احتلالها (موكريانى، د.ت، 68).

اشتد حصار العثمانيون للأمير محمد في رواندوز وعانى من نقص الماء والمؤن فاضطر إلى الاستسلام خاصة عندما أدرك عجزه عن المقاومة وخاصة عندما فقد الجزء الأعظم من مناطق نفوذه على يد القوات العثمانية (خالفين، 1969، 53).

المهم دخل محمد رشيد باشا إمارة سوران، أما الأمير محمد باشا فقد اختلف بعض المؤرخين حول مصيره، لكن معظمهم يتفقون على أن الأمير قد قضى عليه بأمر من السلطان العثماني وهو في طريقه للرجوع إلى إمارته ومعه تفويض بالإمارة (موكريانى، د.ت، 69؛ الموصلي، 1923، 313). كما ظهر رأى آخر يذهب إلى أن الأمير قد حصل على العفو من السلطان بوساطة أحد أمناء الدولة الذي كان جارًا للأمير وهو تحت الإقامة الجبرية في إستانبول مستغلاً الليلة التي كان السلطان يخلو بنفسه فأعاد السلطان إليه حكم الإمارة وأذن له بالرحيل، ولكن والى بغداد قد تدخل في الأمر وبعد مداولات مطولة نجح في حث السلطان على إصدار الأمر بقتله فوصل هذا الأمر إلى والى سيواس متزامنًا مع وصول الأمير محمد فربطوه وألقوه في البحر (بابانى، 1366هـ، 182-185).

وبعد رحيل الأمير محمد دخلت إمارة سوران في طور الاحتضار ولكنها لم تنهر مباشرة فقد اجتمع أولو الأمر في رواندوز وعينوا أحمد بك (أخي الأمير) أميرًا جديدًا على سوران (موكرياني، د.ت، 70). مما يدل على أن العثمانيين قد اكتفوا باستسلام الأمير محمد باشا ولم يقضوا على إمارته في تلك الحملة. وجاء بعد أحمد بك أخوه سليمان بك إلى الحكم وبعده رسول باشا الذي ظل يحكم سروان إلى عام 1852م حيث نصب حاكمًا على رواندوز، وحرير، وشيروان، وبالك، وبرادوست بموجب فرمان فالتجأ إلى إيران بعد هزيمته أمام القوات التي وجهها الوالى إليه فدخلت تلك القوات إلى رواندوز، وتم تعيين متصرف عثماني عليها وأدخلت أجهزة الدولة إليها (موكرياني، د.ت، 70-77). وبعد أن مكث رسول باشا خمس سنوات في إيران أصدر السلطان العفو عنه بوساطة إيرانية، وعاد إلى بغداد، وسافر إلى الحجاز ثم إستانبول، وعُين متصرفًا لمقاطعة وان وبعد ثلاث سنوات اختار الإقامة في أرضروم حتى وفاته هناك سنة 1883م (زكي، 1939، ص 415- 416). 

أما المرحلة الثانية من سقوط الإمارات الكردية فجأت بنهاية إمارة بوتان في عهد بدرخان باشا (1821-1847) تزامن عهده مع وصول الدولة العثمانية إلى ضعف خطير في كيانها ومؤسساتها وتزامن أيضًا مع اصلاحات السلطان محمود الثاني الهادفة إلى تقوية السلطة المركزية، والقضاء على الإمارات والزعامات الكردية وقد ترك ذلك تأثيرًا في أعمال بدرخان بك وتطلعاته ثم مصيره فيما بعد. فالضعف الذي أصاب الدولة بعث آمال الحرية والاستقلال لدى الكرد فقامت الحركات والانتفاضات في أنحاء متفرقة من كردستان وكانت إمارة بوتان تشكل أحد مراكز تلك الانتفاضة الهادفة إلى الحفاظ على الاستقلال الداخلي الكردي وتطويره (هروتي، 2008، 211- 212). فقد اعتبر نفسه بمثابة زعيم روحي للمناطق المحررة من السيطرة العثمانية.

في البداية استغل بدرخان ضعف الدولة العثمانية وشن هجومًا على بعض القبائل المتمردة في النواحي القريبة من منطقة جزرة (جزيرة بوتان) انتهى هجوم بدرخان عليها بأسر بعض أمرائها مما يعد مخالفًا لأوامر السلطانية خاصةً وأن تلك القبائل أعلنت ولاءها للدولة العثمانية لكن ثم هذا الأمر أثار غضب السلطان العثماني ليتدخل لإنهاء هذه الأزمة وإطلاق سراح خاصة وأنه كان من بين الأسرى طفلان من الطائفة النسطورية، وعندما وجه أمر من السلطان إلى بدرخان بإطلاق سراحهما وإرجاعهما إلى أهلهما قوبل ذلك بالرفض على اعتبار أن تلك القبائل قد دأبت على التمرد وعلى إحداث أعمال الفساد والتخريب في المناطق القريبة منها والاستيلاء على ممتلكات الأهالي وأموالهم فضلاً عن تعمدهم قتل وإعدام ستة عشر شخصًا دون وجه حق الأمر الذى جعل تصرفات هؤلاء تجاوز حدود التحمل والصبر، يضاف إلى ذلك إقامة بعض المدارس الأجنبية في لواء وان الذى يسكن فيه تلك القبائل وتلك المدارس وقعت تحت أيدى تدبر سياسة خفية للتدخل في شؤون المناطق لذا جاء تصرف بدرخان كما أوضحه للسلطات العثمانية بهدف الحد من مخاطر تلك القبائل وضرورة عودة إخضاعها للسلطات لكن ذلك لم يمنع السلطان العثماني من التأكد على بدرخان على إطلاق سراحهما وباقي الأفراد الأسرى للحد من الاضطرابات ولم يكتف بدرخان بعدم تنفيذ الأوامر السلطانية فحسب بل عمد إلى تقسيم ممتلكات معظم الأهالي النسطوريين على الأشراف والمشايخ كل ذلك من أجل إدخال عشيرة هكاري وقبيلة نسطوري تحت إدارته مما يعنى تعديه على أوامر السلطان من ناحية وإثارة غضب السفراء الأجانب تجاه اضطهاده للنسطوريين بل تعنته في طلب أموال [أقجات-عملة عثمانية فضية] في سبيل إطلاق سراح الطفلين النسطوريين. ولما وجد بدرخان عدم تسليمه لتلك الأموال قام بإرسالهم إلى بيتهم بسوق جزرة فتعمد أحد الدراويش الأفغان بشرائهما تمهيدًا لبيعهم بالموصل فلما علما محمد باشا أحد الأمراء الكرديين الذين أظهروا طاعة للسلطان العثماني بهذا الأمر استدعى هذا الشخص لتسليم الطفلين فوافق الأخير مقابل إطلاق سراح أحد الدراويش الأفغان التابعين له فتم تلبية طلبه وأرسل الطفلين إلى أهلهما دون مقابل، لذا أرسل محمد باشا المذكور بما حدث إلى السلطان العثماني يطلب منه أنه على استعداد تنفيذ ما يطلب منه للحد من تصرفات بدرخان بك أو تجاوزه للأوامر السلطانية والخروج عن الطاعة (مراد و البوتانى، 2015، 137-139).

بدأ بدرخان في وضع خططه لتنظيم انتفاضة كردية تجاه الدولة العثمانية متجنبًا الأخطاء الذى وقع بها الأمراء الكرد من قبله في فشل انتفاضاتهم السابقة، لذلك بادر باتصاله بالرؤساء والزعماء الكرد لتكوين تحالف كردى ضد السلطات العثمانية وفي إطار ذلك اتصل بالزعماء مصطفي بك، ودرويش بك وخان محمود (حكام مناطق وان) ونور الله بك (أمير هكاري) وفتاح بك (أحد أمراء هكاري) وخالد بك (أمير خيزان) وشريف بك (أمير بدليس) وكور حسين بك (زعيم العشائر الكردية في منطقة قارص) ومما يعطى صفة الشمولية بهذه الانتفاضة ورود اسم أمير أردلان الذى كانت مناطق حكمه تقع ضمن الدولة القاجارية في هذه القائمة أيضًا، وقد توصل هؤلاء الزعماء إلى تكوين ما سمى بـ(الحلف المقدس) الذى كان يترأسه بدرخان بك، وأن يلاحظ أن هذا الحلف لم يشمل إمارات كردستان الجنوبية القريبة من إمارة بوتان قياسًا بإمارة أردلان التي تبعد عنها كثيرًا، ويعود ذلك على الأرجح إلى رفض أمراء تلك الإمارات دعوة بدرخان بك للانضمام إلى الحلف (هروري، 1997، 66- 75).

امتاز حكم بدرخان بك بالقوة والصرامة في كافة أنحاء إمارته إذ لم يكن بمقدور الزعماء المحليين والرؤساء التابعين له رفض أوامره أو التقليل من سلطاته وكان الدعاء يردد له في خطب الجمعة في المساجد لمدة اثنتى عشرة سنة، كما عمد في عام (1842-1843م) إلى إصدار عملة معدنية خاصة بإمارته كتب على أحد جانبيها (أمير بوتان بدرخان) وعلى الجانب الآخر اقتصرت علاقته بالدولة العثمانية على الهدايا التي كان يرسلها إلى السلطان (مالمیسانژ، 1998، 35).

لذا كان يخطط للاستقلال عن الدولة العثمانية بانتفاضته التي سعى إلى إشعالها (سعد بشير إسكندر، ص203 وما بعدها). وانطلاقًا من ذلك الموقف أيدت الدول الأوروبية السلطات العثمانية في محاولتها القضاء على تلك الانتفاضة، وكان تأييدها مخفيًا تحت الستار الديني والحفاظ على مصالح الأقليات المسيحية في الدولة العثمانية باعتبار أن تلك الانتفاضة قد مارست القمع ضد المسيحيين بدافع التعصب الديني (خالفين، 1969، 62).

ونتيجة لذلك استغلت الدولة العثمانية دعم الدول الأوروبية فقررت القضاء على هذه الانتفاضة عام 1847م فعهدت بهذه المهمة إلى الحملة التي تكونت بقيادة (عثمان باشا) والى حلب ولكن المسؤولين العثمانيين بذلوا جهودًا عدة لحسم المسألة عن طريق المحادثات وذلك قبل الشروع في استخدام القوة العسكرية، فأرسلوا مبعوثين إلى بدرخان بك لإقناعه بالعدول عن فكرته والدخول في طاعة الدولة والاعتراف بحكمها على إمارته إلا أنهم لم يحصلوا على نتائج مرضية (هروري، 1997، 131-132).

فلجأت السلطات العثمانية إلى أسلوب شراء الذمم وتقديم الهدايا إلى رؤساء العشائر والمناطق الكردية ليتخلوا عن دعم بدرخان، وقد نجحت إلى حد ما في عزله إذ لم يبق إلى جانبه فيما بعد إلا القليل من حلفائه وظهر أن الحلف المقدس الذى شكله بدرخان مع القوى الكردية المجاورة لإمارته كان حلفًا هشـًا (هروري، 1997، 123-131).

ومن ثم وقعت الاشتباكات بين الطرفين حتى نجحت الدولة العثمانية في القضاء على حلفاء بدرخان بك ليتبقى لها الأخير فأخذت في الاستعداد له، ومع ضربات المدافع العثمانية، ونقص المؤن، والذخائر دفعت بهم في النهاية إلى التسليم للقوات العثمانية عام 1847م وذلك بعد أن أخذ الأمير بدرخان العهد من عثمان باشا بعدم التعرض لحياته، وأمواله، وأسرته، فأرسل بدرخان بك مع أهله إلى إستانبول حيث نفي مع عائلته إلى جزيرة كريت في البحر المتوسط بقى بها لمدة خمسة عشر عامًا ثم سمح له السلطان بالذهاب إلى الشام حيث مات بها عام 1869م بعد أن نال لقب الباشوية (هروتي، 2008، 217).

أما المشاركون في الانتفاضة فقد التجأ معظمهم إلى إيران أو إلى بلاد القفقاس في روسيا، أو اختبأوا في الجبال (خالفين، 1969، 63). أما خان محمود فقد استسلم أيضًا وذلك بتوسط وجهاء مدينة وان حيث أرسل إلى إستانبول، وهناك نفي إلى بلغاريا، وفي أعقاب ذلك عمد العثمانيون إلى نشر القوات العسكرية في المراكز السكانية الكردية المهتمة بهدف منع نشوب الانتفاضات الكردية في المستقبل (هروتي، 2008، 219).

على أية حال بعد القضاء على انتفاضة بدرخان بك عينت الدولة العثمانية عز الدين شير أحد أقرباء الأمير بدرخان حاكمًا على إمارة بوتان والذي ساهم مع العثمانيين في القضاء على الانتفاضة السابقة أي أنه خان الأمير بدرخان عندما كان تزعم أحد أجنحة قوات بوتان (زكي، 1939، 238؛ هروري، 1997، 118). لكن هناك رأيًا مخالفًا لذلك أن عز الدين شير أو (يزدان شير) برئ من تهمة الخيانة ومخالف للحقيقة إذ هناك من يؤكد بقوله أن يزدان شير كان رهن الإقامة الجبرية في (جزيرة) عندما هاجمت القوات العثمانية تلك المدينة فكيف تسنى له قيادة أحد أجنحة قوات بدرخان وإظهار الموقف الخياني المزعوم (هروتي، 2008، 220).

يمكن القول بعد أن تخلى عز الدين شير عن بدرخان بك لجأ إلى زاخو ثم الموصل منحه مشير الأناضول عثمان باشا رتبة أمير الإصطبل الخاص وخصص له راتبًا قدره (3500 قرشًا) وعين بعد القضاء على حركة بدرخان متسلمًا لجزيرة بوتان إلا أن وضعه لم يدم طويلاً عندما عينت السلطات وبموجب التطورات الإدارية التي شهدتها ولاية كردستان قائمقام على الجزيرة، ولم تعد السلطات بحاجة إلى خدماته لذا اقترح والى كردستان أسعد باشا في 26 إبريل 1849م منحه وظيفة أخرى أو إرساله مع أسرته إلى إستانبول إلا أنه أعيد إلى مدينة الموصل بموافقة من الدولة العثمانية تحقيقًا للأمن والأمان، فضلاً عن منحه رتبة حاجب الحجاب (أي كبير الأمناء أو رئيس التشريفات) من قِبَل السلطان العثماني (مراد و البوتانى، 2015، 231- 232). وعندما قامت الحرب الروسية العثمانية، حرب القرم (1853-1856م) كلفته السلطات بالذهاب إلى المناطق الكردية بجمع المقاتلين فتحرك ومعه 200 مقاتل من الموصل إلى الجزيرة حيث سجل نحو 900 مقاتلاً وأخذ يطلب المزيد من الأموال لتغطية حاجة قواته إلا أن طلباته لم تحظ باهتمام الإدارة العثمانية فاستغل عز الدين شير عودته إلى الجزيرة وبتحريض من روسيا انقلب على الدولة العثمانية فدخل في صراع مع الأخيرة (مراد و البوتانى، 2015، 268-269) ووقفت بريطانيا وفرنسا مع الأخيرة ضده لتصبح مسألة عز الدين شير مسألة دولية حتى تمكنت الدولة العثمانية في نهاية الأمر من القبض عليه ونفيه إلى الإيالة العثمانية فيدين الواقعة شمال غرب بلغاريا مع أخيه في قلعة يصعب الهروب منها عام 1856م حتى صدر العفو عنهم عام 1865م لكن منعوا من العودة إلى كردستان ومنح عز الدين شير لقب الباشا براتب 2250 قرشًا وخصص لأخيه 1250 قرشًا واستقرا في سنجق فيدين (مراد و البوتانى، 2015، 37-39؛ مالمیسانژ، 1998، 217-230).

أما عن سقوط إمارة هكاري فبعد أن أصبح نور الله بك أميرًا على إمارة عليها في بداية العقد الرابع من القرن التاسع عشر أبعد جميع منافسيه في الإمارة، وقد شارك نور الله بك في انتفاضة بدرخان بك وأصبح إقليم هكاري أحد مراكز الانتفاضة الكردية ضد السيادة العثمانية، ونظرًا لوجود مجموعات سكانية ملحوظة من الآشوريين في تلك الإمارة فإن أغلب النزاعات التي نشبت بين الآشوريين والكرد خلال أربعينات القرن التاسع عشر كانت في مناطق تلك الإمارة (جليلي جليل، 1987، 127).

  بدأت الدولة العثمانية بعملية القضاء على الانتفاضة الكردية عام 1847م فبدأ عثمان باشا هجماته من الشمال محاولاً القضاء على حلفاء بدرخان بك كما هاجمت القوات العثمانية إقليم هكاري إلا أن نور الله بك كان قد ترك مركز إمارته والتجأ إلى الجبال ليتحصن فيها وتمكن نور الله بك من الاستمرار في المقاومة إلى عام 1849م وبذلك لم يتمكن عثمان باشا من تحقيق أمنيته والانتصار عليه حيث لم تمض مدة طويلة حتى مات عثمان باشا في إستانبول بتأثير مرض الكوليرا الذى أصيب به جنوده أيضًا فخلفه رشيد باشا في عام 1849م وتمكن من إكمال المهمة حيث لم يتمكن نور الله بك من الصمود أمامه فاضطر إلى الالتجاء إلى إيران فقام العثمانيون بعد ذلك بإعادة تنظيم المنطقة فأضيفت بعض السناجق المجاورة إلى إقليم هكاري لتشكل إيالة عثمانية تابعة للسلطة المركزية المباشرة، وعهدت إدارة تلك الإيالة إلى الصدر الأعظم السابق ضياء باشا (جليلي جليل، 1987، 136؛ الدوسكي، 2006 ، 115- 116).

أما عن إمارة بدليس فقد تعرضت لبطش العثمانيين مرارًا إلا أنها ظلت تحتفظ بكيانها واستقلالها الداخلي إلى نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشرن وعندما بدأ العثمانيون محاولاتهم للقضاء على الكيانات الكردية كما ذكرنا سابقًا شملت هذه المحاولة إمارة بدليس أيضًا خاصة وأنها شاركت في الانتفاضة الكردية بقيادة بدرخان بك فقد انضم أمير بدليس (شريف بك) إلى ما سمى بـ(الحلف المقدس). أما بدليس فقد تعرضت في عام 1834م لحملة محمد رشيد باشا إلا أنها تمكنت من الصمود في وجه الحملة (برانت، 1989، 29). وبقيت مدة خمسة عشر سنة أخرى حيث جاءت نهايتها في عام 1849م إذ ألقى العثمانيون القبض على الأمير شريف بك في هذه السنة بعد أن قاوم الجيش العثماني مدة من الزمن فأخذوه إلى إستانبول. أما إمارة بدليس فقد أصبحت تدار من قِبَل حاكم عثماني تابع لإيالة وان (خالفين، 1969، 63).

أما إمارة بابان فعندما تبوأ أحمد باشا ابن سليمان باشا إمارة في عام 1838م بعد وفاة والده، وكان من سوء حظه أن جاء عهده متزامنًا مع فترة ضعف واضمحلال إمارة بابان من جهة، ومحاولات الدولة العثمانية لاستعادة قواها والقضاء على الإمارات والزعامات المحلية من جهة أخرى ورغم ذلك كان له طموحات واسعة للنهوض بإماراته ضد السيادة العثمانية (ميجرسون، 1971، 141-152).

وبسبب لجوء أمراء بابان إلى إيران والاستعانة بقواتها لتحقيق مطامحهم في الإمارة غضب ولاة بغداد العثمانيون وترتب عليه تحرك الدولة العثمانية للقضاء على إمارة بابان.

ومن ثم عمد والى بغداد نجيب باشا (1842-1849م) إلى القضاء على حكم الأمير أحمد باشا في عام 1847م فاشتبك الطرفين وانتهت بهزيمة الأخير ولجوئه إلى طهران حيث توسط السفير العثماني هناك للعفو عنه وذهب على إثر ذلك إلى إستانبول (لونكريك، 1985، 345؛ زكي، 1947، 88).

أقدم نجيب باشا بعد ذلك على تعيين عبد الله باشا حاكمًا على السليمانية ولكن ليس بصفة أمير على إمارة بابان بل قائمقاماً على قضاء السليمانية ووضع في المدينة حامية من الجنود العثمانيين إلا أنه لم يطل به العهد إذ عزل في عام 1849م ليحل محله موظف عثماني ومؤسسات الدولة العثمانية (بصري، 1991، 28). ومن الواضح أن تعيين عبد الله باشا بابان بصفة قائمقام على السليمانية كان يعود إلى محاولة العثمانيين التوفيق بين تطبيق سياستهم في القضاء على الإمارات الكردية وبين احترام حق الشرعية لأسرة بابان الذي كان مبجلاً لدى أهل الإمارة أي أن تلك الخطوة كانت بمثابة تعويد الأذهان لسياستهم الجديدة.

أما عن مصير أحمد باشا بابان فقد عينته الدولة العثمانية واليًا على عدة إيالات منها يمن، وان، أرضروم، أدنه، حتى توفي عام 1875م (بصري، 1991، 31). أما إمارة بابان فقد قسمت إلى وحدات إدارية عدة للحيلولة دون إعادة توحيدها وتنظيمها ضمن نفوذ الإمارة (العزاوي، مج 4-7، 1955، 107- 108). 

على أية حال لقد ساهمت عدة عوامل في فشل الانتفاضات الكردية ضد الحملات العثمانية وما تبعه من سقوط الإمارات الكردية منها الانقسام الموجود في كردستان، ولجوء كل إمارة كردية إلى الدفاع عن نفسها بنفسها، وعدم اتفاق فيما بينها لتوحيد جهودها في مقاومة الحملات العثمانية المتوالية على كردستان يعد عاملاً مهمًا من هذه العوامل (زكي، 1939، 246). كذلك موالاة الزعماء الإقطاعيون والعشائر للعثمانيين وعدم الوقوف ضدهم أحيانًا.

فقد كان الزعماء الإقطاعيون يعمدون إلى التخلي عن الانتفاضة حينما كانوا يدركون بأن الأمور لا تسير كما تبغي مصالحهم الذاتية حتى وأن أراد الفلاحون الاستمرار في المقاومة (هروتي، 2008، 226). كما أن العلاقات العشائرية والولاء إلى العشيرة كانت تقلل من الولاء للإمارة أو القومية، فقد سقطت عقره في يد القوات العثمانية نتيجة خيانة عشيرة الزيبار (القاطنة فيما بين عقره والزاب الكبير جنوبي كردستان) التي كانت تكن لمحمد باشا السوراني العداء الشديد نتيجة قيام الأخير بالتنكيل بهم حينما رفض الزيباريون الانضواء تحت لوائه لقوة انتمائهم القبلي (هروتي، 2008، 227).

كما أن الانقسام الموجود داخل الإمارة الكردية الواحدة ضمن هذه العوامل أيضًا أحيانًا إذ كان الانقسام يؤدى إلى إضعاف مقاومة تلك الإمارة ثم سقوطها، وقد ظهرت تأثير ذلك العامل بصورة جلية في مقاومة أحمد باشا البابانى الذي انهزم أمام والى بغداد لتواطؤ أخيه عبد الله باشا مع عدوه، ويبدو أن الكرد كانوا على علم بذلك العامل حتى في تلك المدة فعندما وصل القنصل البريطاني جيمس برانت إلى إحدى مناطق سهل موش (شرقى تركيا) التي حارب سكانها ضد قوات حافظ باشا بالرغم من وقوف زعيمهم إلى جانب عدوهم (برانت، 1989، 84).

كما أن حوادث الخيانة وطريقة ضرب الانتفاضة الكردية بأبنائها والتي اتبعها العثمانيون لإخماد المقاومة الكردية في بعض الأحيان كان عاملاً مساعدًا لفشل المقاومة، وسقوط الإمارات الكردية، وأبرز مثال على ذلك هو موقف عزيز بك الباباني الذي ساهم في الإطاحة بحكم عبد الله باشا بابان في السليمانية لمصلحته الذاتية والتي لم يحصل عليها (هروتي، 2008، 227).

كما لا يمكننا أن نستبعد العامل الديني في فشل بعض الانتفاضات الكردية إذ كان مسألة تبجيل السلطان العثماني بوصفه خليفة المسلمين لا يزال كامنًا في نفوس الكرد البسطاء الذين كانوا يرون أن القتال ضد جيش السلطان ثم لا يغتفر. وقد ذكر في هذا الصدد الرحالة الإنجليزي فريزر بقوله «إن بقايا التبجيل لخليفة الرسول وزعيم الإسلام الديني منعت الكرد عن مقاومة جنود السلطان بالسلاح» (فريزر، 1964، 27).

وكان العامل الخارجي المتمثل في الدور الذى اضطلعت به الدول الأوروبية الكبرى وعلى رأسها بريطانيا له تأثير في مسار الأحداث أيضًا، وذلك في الوقت الذى كان معظم الأمراء والزعماء الكرد غافلين عن هذا العامل، وقد برز هذا الدور السلبى في انتفاضتي محمد باشا السوراني، وبدرخان بك البوتانى بصورة أكيدة كما تبين من قبل كذلك قوة الجيوش العثمانية التي أدخلت عليها الاصلاحات وزودت بالنظم والأسلحة الحديثة آنذاك فأصبحت متطورة بالقياس إلى القوات العسكرية الكردية دون شك وخاصة في أعقاب اصلاحات السلطان محمود الثاني الذى أسس جيشًا نظاميًا حديثًا كما ذكرنا من قبل.

وبالرغم من ذلك كله يجب أن لا ننسى أن بقاء الكيانات السياسية الكردية المتمثلة بالإمارات الكردية وتواصلها لهذا الأمد الطويل الذى كانت تبلغ في معظم الأحيان قرونًا عدة لتدل دلالة واضحة على أن الكرد قد أثبتوا في أحيان كثيرة من تاريخهم بأنهم على استعداد للترفع عن مستوى المصالح الضيقة والولاءات العشائرية والاستعداد للتضحية في سبيل تلك الإمارات فقد عاضدت عشائر الجاف الأمير أحمد باشا البابانى في عام 1847م عندما تعرض بهجوم والى بغداد نجيب باشا وذلك بالرغم من توتر العلاقة بين الأمير البابانى المذكور وعشائر الجاف في تلك الفترة وكذلك اضطر كهنة (كخيا) الوالي أحمد باشا ابن حسن باشا إلى ترك محاصرة قلعة آميدى لتعرضه المتواصل لغارات عشائر بادينان في عهد الأمير البادينى بهرام باشا الكبير (1714-1768م). ويجب التنويه إلى أن العوامل الداخلية المتمثلة بالنزاعات حول السلطة والتفرقة القائمة لم تكن إلا عوامل مساعدة أو معجلة لعملية السقوط. (المائي، 1960، 154).

خلاصة القول لقد تم القضاء على جميع الإمارات الكردية التابعة للدولة العثمانية عام 1851م الأمر الذي كان يعنى نهاية عهد الإمارات في كردستان واضمحلال الاستقلال الداخلي الذي كانت تمتاز به كردستان خلال ذلك العهد مما أدى إلى خضوع المناطق الكردية إلى السلطة العثمانية المباشرة وسيادة مؤسساتها في تلك المناطق فقد أصبح الحكم بيد الباشوات العثمانيين يعاونهم عدد من الموظفين وعلى رأسهم متصرف، وقاض، ومحاسب.

حلت القوات العثمانية محل القوات المحلية الكردية (نوار، 1968، 135). فانتشرت هذه القوات كحاميات في المدن المهمة من كردستان وأصبحت وبالاً على كاهل الناس وآلة قمع جاهزة لقمع أية حركة مناوئة تظهر بينهم (هروتي، 2008، 229).

لكن معنى ذلك لم تتحسن الأوضاع الاقتصادية في كردستان عقب هذا التغيير بل فرضت ضرائب إضافية على كاهل السكان واستعمال الشدة في حياتها ترتب عليه سوء حالة الفلاح بل ترك أرضه والالتجاء إلى الجبال هربًا من دفع الضرائب أحيانًا إذا عجز عن دفعها، أو ربما يلجأ بعض الفلاحين اضطرارًا إلى تقديم بناتهن الصغيرات اللاتي تتراوح أعمارهن بين ثلاث وثمان سنوات إلى موظفي الضرائب بدلاً من الأموال لعدم تمكنهم من دفع الضرائب لفقرهم الشديد، وعدم تنازل الدولة عن ضرائبها الجائرة مهما كانت الظروف، وكانت تلك الفتيات يقدمن إلى الموظفين بدلاً من الرواتب حسب رواية أحد شهود العيان (الدملوجي، 1952، 50- 51).

وإلى جانب ذلك خضعت كردستان لنظام التجنيد الإجباري الذي كان أشبه بعملية «صيد الإنسان» حسب قول أحد المسؤولين عن هذه العملية حيث كان المجندون يؤخذون بأياد مقيدة (هروتي، 2008، 230). وكان الكرد يقاومون التجنيد ويأنفون منه فيلجئون إلى الجبال هربًا منه لقسوته ولأنه كان يؤدى إلى قلة الأيدي العاملة في القرى الأمر الذي كان يضر بالعملية الإنتاجية ويؤثر في وضعهم المعاشي سلبًا (هروتي، 2008، 230).

وعندما انتزع العثمانيون السلطة من الأمراء الكرد أصبح الأغوات الإقطاعيـون ممـن لا يمكن لسواد القبائل الكردية الاستغناء عنهم ليكونوا حلقة وصل بالموظفين الأجانب الذين عينوا عليهم وكانت النتيجة الطبيعية هي تمكن الطبقة الأرستقراطية الجديدة من تثبيت مركزها (ادموندز، 1971، 203).

ولعل ما تجدر الإشارة إليه لم تخضع العشائر كما كانوا، وظلوا يمارسون سلطاتهم على أفراد عشائرهم دون أن يتأثر ذلك بالسيادة العثمانية (نوار، 1968، 134). ولعل ذلك راجع إلى عدم تمكن العثمانيين من فرض حكمهم المباشر على هذه العشائر التي كانت رحالة أو شبه رحالة غالبًا وذلك إلى جانب بقاء روح الانتماء القبلي لديهم على قوته مما كان يجعل إخضاعهم أمرًا صعبًا.

أما فيما يتعلق باستفادة العثمانيين من عملية القضاء على الإمارات الكردية فيمكن القول أنهم حصلوا على منافع عدة؛ فقد أصبح التدخل الأجنبي وعلى الأخص الإيراني أقل من ذي قبل وذلك حينما قضى على الأمراء والزعماء الكرد الذين كانوا يلجؤون فرارًا إلى الدول المجاورة وخاصةً إيران طلبًا للمساعدة ضد السلطات العثمانية كما انخفضت مجهودات الولاة العسكرية التي كانت تبذل سنويًا في محاربة الإمارات (المتمردة) على السيادة العثمانية (نوار، 1968، 134، 135). وذلك إلى جانب منافع أخرى.

كذلك أن عملية الإخضاع الطويلة التي مارستها السلطات العثمانية ضد الإمارات الكردية وما نتج عن ذلك من توحيد أقاليم تلك الإمارات والمناطق المختلفة تحت لواء دولة واحدة الدولة العثمانية قد أدى إلى توحيد الأعراف والعادات، وزيادة الاختلاط، والتزاوج، والاتصال بين الكرد بعد القضاء على الحواجز القديمة بين تلك الإمارات، وقد أدى ذلك إلى نمو الشعور القومي الكردي والتطلع نحو توحيد أجزاء كردستان حيث نتج عن توحيد إماراتها الكردية توحيد التطلعات الكردية نحو التخلص من الحكم العثماني، كما أن أحداث الحملات العثمانية الأخيرة والانتفاضات الكردية التي نشبت جراء ذلك فقد أدت إلى ظهور بواكير الحركة التحررية الوطنية الكردية التي عمقت جذورها في انتفاضات محمد باشا السوراني وبدرخان بك البوتانى وأحمد باشا الباباني وغيرهم (الطالباني، 1971، 74).

الخاتمـة:

أيًا ما كان الأمر لقد عانت كردستان منذ دخولها تحت السيطرة العثمانية من عدة اضطرابات سياسية وإدارية انعكست بشكل واضح على أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية حيث هدفت السلطات العثمانية من سياستها تجاه كردستان تطويع إمارتها لخدمة مصالحها برفض الحكم المباشر عليها كخطوة مهمة في تقوية سلطاتها بكردستان لحفظ الأمن بها والحصول على أموال إضافية لخزينة الدولة.

ومع ردود الفعل الكردستاني تجاه سياستها المضطهدة للكرد ظهرت عديد من الانتفاضات الكردية التي وجهت لها حملات عسكريه عثمانية صاحبها عمليات القتل والدمار والسلب؛ والنهب والتعسف في فرض الضرائب فضلاً عن سياسة التجنيد ورغم ذلك استمرت الحركة التحررية الكردية الحديثة منذ أوائل القرن التاسع عشر بهدف رفع الظلم عن الكرد وتحقيق طموحاتهم، ومقاومة السياسة المركزية الجديدة التي كانت نتيجتها زوال الإمارات الكردية ورغم فشل الكرد في الحفاظ على تلك الإمارات إلا أنه يمكن القول أن تلك الانتفاضات بداية لأول حركة كبيرة للشعور القومي لدى الكرد تظهر بالطرق التقليدية بالإضافة إلى كونها عودة للتفكير بالعصور الذهبية للحركة التحررية الكردية الحديثة والمعاصرة في الفترات اللاحقة لا سيما أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

قائمة المصادر والمراجع

أولاً: الوثائق المنشورة

- عثمان، علي. (2010) الكرد في الوثائق العثمانية، أربيل.

- مراد، خليل علي، والبوتانى، د.عبد الفتاح علي. (2015) صفحات من تاريخ الكرد وكردستان الحديث في الوثائق العثمانية 1840-1915، أربيل.

ثانياً: الرسائل والاطاريح الأكاديمية:

- حسين، سعدى عثمان. (1995) كردستان والإمبراطورية العثمانية: دراسة في تطورها السياسي 1514-1851)، رسالة ماجستير مقدمة الى قسم التاريخ، كلية الآداب، جامعة صلاح الدين/ إقليم كردستان العراق.

- علي، شاكر علي. (1992) ولاية الموصل في القرن السادس عشر: دراسة في أوضاعها السياسية والإدارية والاقتصادية، أطروحة دكتوراه مقدمة الى قسم التاريخ، كلية الآداب، جامعة الموصل.

ثالثاً: المصادر باللغة العربية

- أبو بكر، أحمد عثمان. (1973) أكراد المللي وإبراهيم باشا، بغداد.

- أحمد، إبراهيم خليل. (1986) تاريخ الوطن العربي في العهد العثماني 1596-1916، جامعة الموصل.

- ادموندز، س. جى. (1971) كرد وترك وعرب، ترجمة جرجيس فتح الله، مطبعة التمايس، بغداد.

- إسماعيل، زبير بلال. (1971) أربيل في أدوارها التاريخية، مطبعة النعمان، النجف.

- بابان، جمال. (1986) أصول أسماء المدن والمواقع العراقية، الطبعة الثانية، بغداد.

- البدليسي، شرفخان. (1953) الشرفنامه في تاريخ الدول والإمارات الكردية، ترجمة: ملا جميل بندى روژبیانى، مطبعة النجاح، بغداد.

- برانت، جيمس. (1989) رحلة المستر جيمس برانت إلى المنطقة الكردية عام 1838، ترجمة حسين أحمد الجاف: مطبعة الجاحظ، بغداد.

- البصري، عثمان بن سند الوائلي. (1991) مطالع السعود، الموصل.

- بصري، مير. (1991) إعلام الكرد، لندن.

- پی ره ش. (1980) بارزان وحركة الوعي القومي الكردي 1826-1914، د. م.

- جب، هاملتون و بوون، هارولد. (1997) المجتمع الإسلامي والغرب، ترجمة: عبد المجيد حسيب القيسي، الجزء الأول، القسم الثاني، دار المدن للثقافة والنشر، دمشق.

- جلبي، أوليا. (1314هـ) سياحتنامه، جـ4، أقدام مطبعة سي، إستانبول.

- جليل، جليلي. (1987) من تاريخ الإمارات في الإمبراطورية العثمانية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ترجمة: محمد عبدو النجار، دمشق.

- جودت، أحمد. (1301ه) تاريخ جودت، إستانبول.

- حسين، سعدى عثمان. (2006) كردستان الجنوبية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، أربيل.

- خالفين، ن. أ.(1969) الصراع على كردستان، ترجمة د:أحمد عثمان أبو بكر، بغداد.

- خصباك، شاكر. (1959) الكرد والمسألة الكردية، منشورات الثقافة الجديدة، مطبعة الرابطة، بغداد.

- الدملوجي، صديق. (1952) إمارة بهدينان أو إمارة العمادية، مطبعة الاتحاد الجديدة، الموصل.

- الدوسكي، كاميران عبد الصمد. (2006) كردستان في العهد العثماني في النصف الأول من القرن التاسع عشر، الدار العربية للموسوعات، بيروت، لبنان.

- رامبو، لوسيان. (1998) الكورد والحق، ترجمة: عزيز عبد الأحد نباتى، أربيل.

- رؤوف، عماد عبد السلام. (1834) الموصل في العهد العثماني فترة الحكم المحلي 1139-1249هـ/ 1726-1834م، النجف.

- زكي، محمد امين. (1939) خلاصة تاريخ الكورد وكردستان، ترجمة: محمد علي عوني، القاهرة.

- زكي، محمد امين. (1947) مشاهير الكرد، ج1، د.ت.

- الطالباني، جلال. (1971) كردستان والحركة القومية الكردية، الطبعة الثانية، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت.

- العباسي، محفوظ. (1969) إمارة بهدينان العباسية، الموصل.

- العزاوي، عباس. (1955) تاريخ العراق بين احتلالين، مج 4-7، شركة التجارة والطباعة المحدودة، بغداد.

- العزاوي، عباس. (1998) العمادية في مختلف العصور، تحقيق حمدى عبد المجيد السلفي وعبدالكريم أفندى، مطبعة وزارة الثقافة، بغداد.

- العزاوي، عباس. (2000) شهروز السليمانية: اللواء والمدينة، تحقيق محمد القيره داغى، بغداد.

- علي، علي شاكر. (1984) تاريخ العراق في العهد العثماني 1638-1750، دراسة في أحواله السياسية، مطبعة دار الشعب، بغداد.

- العمري، ياسين بن خير الله الخطيب. (1940) غرائب الأثر في حوادث ربع القرن الثالث عشر، مطبعة أم الربيعين، الموصل.

- فائق بك، سليمان. (1962) تاريخ بغداد، ترجمة: موسى كاظم نورس، مطبعة المعارف، بغداد.

- فريزر، جيمس بيلى. (1964) رحلة فريزر إلى بغداد في 1834، ترجمة: جعفر الخياط، مطبعة المعارف، بغداد.

- الكوراني، على سيدو. (1939) من عمان إلى العمادية أو جولة في كردستان الجنوبية، مطبعة دار السعادة، القاهرة.

- لونكريك، ستيفن همسلى. (1985) أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث، ترجمة جعفر الخياط، ط6، بغداد.

- مالكم، جان. (1323ه) تاريخ إيران، ترجمة رضا الشيرازى، جـ2، د.م.

- مالمیسانژ. (1998) بدرخانيو جزيرة بوتان ووثائق جمعية اتحاد العائلة البدرخانية، ترجمة: كولبهار بدرخان ودولاوز الزنكى، ومراجعة وتقديم نذير جرمانى، بيروت.

- المائي، أنور. (1960) الأكراد في بهدينان، مطبعة الحصان، الموصل.

- المحامي، محمد فريد بك. (1977) تاريخ الدولة العلية العثمانية، بيروت.

- مصطفي، أحمد عبد الرحيم. (1982) في أصول التاريخ العثماني، دار الشروق، بيروت.

- الموصلي، سليمان صائغ. (1923) تاريخ الموصل، المطبعة السلفية، مصر.

- ميجرسون. (1971) رحلة متنكر إلى بلاد ما بين النهرين وكردستان، ترجمة: فؤاد جميل، جـ2، بغداد.

- ناظم بيك، حسين. (2001) تاريخ الإمارة البابانية، ترجمة: شكور مصطفي ومحمد الملا عبدالكريم المدرس، اربيل.

- نوار، عبد العزيز سليمان. (1968) تاريخ العراق الحديث من نهاية حكم داود باشا إلى نهاية حكم مدحت باشا، دار الكاتب العربى للطباعة والنشر، القاهرة.

- نيبور، كارتسن. (1965) رحلة نيبور إلى العراق في القرن الثامن عشر، ترجمة: د. محمود حسين الأمين، بغداد.

- نيكيتين، باسيل. (1967) الأكراد، دار الروائع، بيروت.

- هروتي، سعدي عثمان. (2008)الإمبراطورية العثمانية: دراسة في تطوير الهيمنة العثمانية في كردستان 1514-1851، مطبعة خاني، دهوك.

- هروري، صلاح. (2000) إمارة بوتان في عهد الأمير بدرخان 1821-1847، مؤسسة موكريانى للطباعة والنشر، أربيل.

رابعاً: المصادر باللغة الفارسية

- باباني، عبد القادر ابن رستم. (1366ه) سير الأكراد، تحقيق محمد رؤوف توكلى، تهران.

خامساً: المقالات

- يحيى، عبد الفتاح علي. (1987) الهجوم العثماني على كردستان وسقوط إمارة سوران، مجلة كاروان، العدد (52)، بغداد.

- يحيى، عبد الفتاح علي. (1992) الكورد وكردستان في رسائل الفيلد مارشال هيلموت فون كارل مولتكه، مجلة (نوسه رى كورد/ الأديب الكردي) العدد (4)، بغداد.


 

 

 

سیایه‌تا ده‌وله‌تا عوسمانی ل هه‌مبه‌ر میرنشینێن كوردان ل  كوردستانى 1514-1851

پۆختە:

ل سالا 1514 كوردستان كه‌فته‌ ل ژێر ده‌ستهه‌لاتا عوسمانی، و ئه‌ڤه‌ ده‌ستپێكا په‌یدابوونا په‌یوه‌ندیان دناڤبه‌را كورد و عوسمانیاندا بوو، ئه‌وژى ده‌مێ سولتان سه‌لیمێ ئێكێ په‌یمانه‌ك دگه‌ل كوردان گرێدای. ل سه‌ر ڤی بناخه‌ی پتر ژ 30 میرگه‌هێن كوردی د چوارچووڤێ ده‌وله‌تا عوسمانیدا هاتنه‌ رێكخستن وه‌ك: به‌هدینان، سوران، بابان و بوتان و گه‌له‌كێن دی.

لێ هه‌ر زوو ده‌وله‌تا عوسمانی ژ په‌یمانا خوه‌ دگه‌ل كوردان لێڤه‌بوو، و ده‌ست ب مایتێكرنێ دكاروبارێن میرگه‌هاندا كر، ئه‌وژى ب رێكا په‌یدا كرنا ئاریشه‌یان دناڤبه‌را میرگه‌هاندا یان دناڤ ئێك میرگه‌هدا. هه‌روه‌سا باجێن گران ل سه‌ر میران هاتنه‌ سه‌پاندن، و ل ناڤه‌راستا سه‌ده‌یێ نوزده‌ ده‌وله‌تێ ده‌ست ب سه‌پاندنا حوكمێ مه‌لبه‌ندی ل سه‌ر ڤان میرگه‌هان كر.

ئه‌ڤ ڤه‌كولینه‌ هه‌ولدده‌ت به‌رسڤا ڤان پرسیاران بده‌ت:

1- چه‌وا ده‌وله‌تا عوسمانی شیا ده‌ستهه‌لاتا خوه‌ ل سه‌ر كوردستانێ بسه‌پینیت؟

2- چه‌وا شیا كوردستانێ ژلایێ سیاسی و كارگێریڤه‌ ب عوسمانی بكه‌ت؟

3- سروشتێ سیاسه‌تا عوسمانی ل هه‌مبه‌ر میرێن كورد چه‌وا بوو؟

4- بوچی عوسمانی ژ په‌یمانا خوه‌ د گه‌ل میرگه‌هێن كوردی لێڤه‌بوو؟

5- كارڤه‌دانا میرگه‌هێن كوردان چه‌وا بوو؟

6- ره‌وشا سیاسی و كارگێرى ل كوردستانێ پشتی كه‌فتنا میرگه‌هان ب چ شێوه‌ بوو؟

په‌یڤێن سه‌ره‌كی:  میرگه‌هێن كوردی، ده‌وله‌تا عوسمانی، هزرا نه‌ته‌وه‌یی، سه‌رهلدانێن كوردان.

 

 

 

 

 

The policy of the Ottoman Empire towards the Kurdish emirates in Kurdistan

1514-1851

 

ABSTRACT:

The entry of Kurdistan under Ottoman control in 1514 AD after the Battle of Chaldiran was the beginning of the political relations between the Kurds and the Ottomans with the signing of the agreement of the Ottoman Sultan Selim I (1512-1520 AD) in that year with the leaders of the Kurdish Emirates to stand by the Ottoman Empire in its wars, provided that the latter recognizes the independence of the Kurdish Emirates.

Since this moment, there has been a major turning point in the history of the Ottoman-Kurdish relations, as most of the Kurdish regions became affiliated to the Ottoman state, and as a result of the participation of the Ottoman Kurds in their wars against their Safavid neighbors, especially after the previous battle, the Ottoman sultans recognized the legitimacy and authority of the Kurdish princes in their hereditary emirates, and the Ottoman state allowed With the formation of many Kurdish emirates, the number of which reached thirty major emirates, such as the emirates of Bahdinan.

Soran, Bhutan, and Baban, after the Ottoman Empire signed an agreement of friendship and alliance with those Emirates in 1515 AD.

However, the Ottoman state did not adhere to the two previous agreements to achieve several benefits for it at the expense of weakening the political entities in Kurdistan by igniting conflicts and problems between the Emirates and the Kurdish leaders, what was known as the policy of divide and rule and the Ottoman intervention in their affairs, and the achievement of financial gains by the Kurdish princes aspiring to obtain the position of the emirate as well Excessive taxation and the spread of looting and looting in the Kurdish emirates, which led to the emergence of several Kurdish uprisings to protest against this policy and defend their rights, and with the advent of the nineteenth century, the Ottoman policy aimed at restoring central control over Kurdistan to achieve its greater goal, which is the fall of the Kurdish emirates that existed for several centuries. .

And the subsequent rise of several Kurdish uprisings, and this took place at close intervals during the nineteenth century until the fall of the last emirate in 1851 AD. It was not satisfied with that, but rather deported the Kurdish princes and their families to areas far from Kurdistan to prevent them from carrying out any revolutions in the future. From here came the research problem focused on the following points:

1- How was the Ottoman Empire able to impose its control over Kurdistan?

2- How was the Ottomanization of Kurdistan politically and administratively?

3- What was the nature of the Ottoman policy towards the Kurdish princes?

4- What were the reasons that prompted the Ottoman Empire to veto the friendship and alliance agreement with the Kurdish emirates?

5- To what extent has the arbitrary policy towards the Kurdish Emirates reached?

6- What are the reactions of the Kurdish princes towards the arbitrary Ottoman policy?

7- How did the Ottoman authorities confront the Kurdish uprisings?

8- To what extent did the Ottoman Empire succeed in imposing central authority on Kurdistan? What is its impact on the rule of the Emirates?

9- Why did the Ottoman Empire resort to the fall of the Kurdish emirates?

10- How did the Ottoman Empire respond to the Kurdish uprisings as a result of the attempt to overthrow the Kurdish emirates?

11- To what extent have the political and administrative conditions of Kurdistan reached after the fall of its emirates

KEYWORDS: Kurdish emirates - Ottoman central rule - Kurdish uprisings - Kurdish nationalis.



* الباحث المسؤل.

This is an open access under a CC BY-NC-SA 4.0 license (https://creativecommons.org/licenses/by-nc-sa/4.0/)