واقع كردستان في ظل المعاهدات الإيرانية-العثمانية (1514 - 1847) م

محمد الطاهر بنادي *

قسم العلوم الإنسانية، كلية العلوم الإنسانية و الاجتماعية ، جامعة بسكرة  /الجمهورية الجزائرية.

تاريخ الاستلام: 01/2023            تاريخ القبول: 03/2023    تاريخ النشر: 06/2023  https://doi.org/10.26436/hjuoz.2023.11.2.1297

الملخص:

مثلت معركة جالديران التي نشبت بين الدولتين الصفوية والعثمانية سنة 1514م، فاتحة حقبة تاريخية طويلة من الصراع بينهما، والتي امتدت لأكثر من ثلاثة قرون، كانت من خلالها بلاد كردستان محورا له، كونها تشكل حاجزا طبيعيا يفصل بين القوتين. إن الصراع تطور أكثر بسبب طموحات الدولة الصفوية الجديدة، التي كانت تهدف إلى بسط نفوذها خارج حدودها الإقليمية على حساب كردستان. لقد دفع هذا الصراع بالدولتين إلى حل خلافاتهما عن طريق المفاوضات والحوار، بعد استنزافه لقدراتهما على مدى قرون، مع تغير موازين القوى لصالح دول أخرى، خاصة بريطانيا وروسيا، وقد جاء هذا التحول في علاقتهما البينية عبر مسارات عديدة، ترجمتها جملة معاهدات واتفاقيات وقعها الطرفان منها: معاهدة أماسيا 1555 م معاهدة فرهاد باشا (القسطنطينية) 1590 م معاهدة نصوح باشا 1612 م معاهدة سراو 1618 م معاهدة زهاب (قصر شيرين) 1639 م معاهدة أرضروم الأولى 1823 م ومعاهدة أرضروم الثانية 1847 م، حيث أثرت بشكل أو بآخر على كردستان جغرافيًا، سياسيًا، اقتصاديًا واجتماعيًا، وهذا بعد أن تمت تجزئتها بينهما إلى مناطق نفوذ. سنحاول دراسة هذا الموضوع ذو الصبغة التاريخية السياسية وفق إشكالية رئيسة، من خلال موقع كردستان في المعاهدات الإيرانية العثمانية، وأثر ذلك على بنائها الجغرافي، السياسي، الاقتصادي والاجتماعي، انطلاقا من هذه الإشكالية، سنعتمد في دراستنا على المنهج التاريخي بأداتيه الوصفية والتحليلية، مركزين على تحليل مضمون المعاهدات. سنعالج موضوع البحث وفق العناصر التالية: 1- الصراع الإيراني العثماني بعد عام 1514 م وتجدده في عهد طهماسب الأول (1524 م 1576 م). 2- المعاهدات الإيرانية العثمانية (1555 م 1847 م). 3- أثر المعاهدات على البناء الجغرافي، السياسي، الاقتصادي والاجتماعي لكردستان.

الكلمات الدالة: الصفويون، العثمانيون، كردستان، المعاهدات، العصر الحديث.


المحور الأول: التاريخ السياسي للدول والإمارات الكردية - الإمارات الكردية في المعاهدات العثمانية-الإيرانية

مقدمة

مثل الكرد أحد المكونات الأساسية لشعوب منطقة المشرق، بما كان لهم من دور في بناء دوله وحضاراته وصناعة أحداثه، ومع حلول القرن السادس عشر الميلادي، أصبحت كردستان محط أنظار الإيرانيين والعثمانيين ، لغرض السيطرة عليها واستغلال ثرواتها حتى أصبح مصيرها مرتبطا بالتطورات الداخلية والخارجية لكلا الدولتين، لقد مثلت معركة جالديران التي نشبت بينهما سنة 1514م، فاتحة حقبة تاريخية طويلة من الصراع ، والتي امتدت لأكثر من ثلاثة قرون تخللتها فترات سلام، كانت من خلالها بلاد كردستان محورا له، كونها تشكل حاجزا طبيعيا يفصل بين القوتين. إن هذا الصراع تطور أكثر بعد طموحات الدولة الصفوية الجديدة، التي كانت تهدف إلى بسط نفوذها خارج حدودها الإقليمية على حساب كردستان

ولوضع حد لهذه المواجهة بين الدولتين، رأتا ضرورة حل خلافاتهما عن طريق المفاوضات والحوار، بسبب استنزافها لقدراتهما على مدى قرون ، مع تغير في موازين القوى لصالح دول أخرى، خاصة بريطانيا وروسيا ، وقد جاء هذا التحول في علاقتهما البينية عبر مسارات عديدة، ترجمتها جملة معاهدات واتفاقيات وقعها الطرفان منها : معاهدة أماسيا عام 1555م معاهدة فرهادباشا (القسطنطينية) عام 1590م معاهدة نصوح باشا عام 1612م معاهدة سراو عام 1618م معاهدة زهاب (قصر شيرين) عام 1639م معاهدة أرضروم الأولى عام 1823م ومعاهدة أرضروم الثانية عام 1847م ، التي أثرت بشكل او بآخر على كردستان جغرافيا، سياسيا، اقتصاديا، واجتماعيا، وهذا بعد أن تمت تجزئتها بينهما إلى مناطق نفوذ، حيث أصبحت جغرافيتها تخضع لحالات التمدد والانحسار لكل منهما.

سنحاول دراسة هذا الموضوع ذو الصبغة التاريخية السياسية وفق إشكالية رئيسة، من خلال موقع كردستان في المعاهدات الإيرانية العثمانية، وأثر ذلك على بنائها الجغرافي، السياسي، الاقتصادي والاجتماعي.

انطلاقا من هذه الإشكالية سنعتمد في دراستنا على المنهج التاريخي بأداتيه الوصفية والتحليلية، مركزين على تحليل مضمون المعاهدات.

وقد اقتضت خطة هذه الورقة البحثية تقسيمها إلى العناصر التالية:

مقدمة وثلاثة عناصر، حيث تناولنا في العنصر الأول مراحل الصراع الإيراني العثماني ومجرياته، بداية من معركة جالديران عام 1514م، حتى عهد الشاه طهماسب الأول (1524م-1576م)، في حين عالجنا في العنصر الثاني سلسلة المعاهدات الإيرانية-العثمانية منذ عام 1555م إلى غاية عام 1847م ، بينما تعرضنا في العنصر الثالث إلى انعكاسات وآثار هذا الصراع على البناء الجغرافي ، السياسي ، الاقتصادي ، والاجتماعي لكردستان ، وختمناها باستنتاج تضمن أهم ما توصلنا إليه من نتائج بعد هذه الدراسة.

نظرا لتأثير الكرد في المنطقة الذي يفوق تأثير باقي المكونات الأخرى ، تعاملت معهم الدولتان بقسوة وشدة ، من منطلق المحافظة على أمنهما القومي ، بانتهاجهما لاستراتيجيات متعددة قصد إخضاعهم، منها محاولة طمس الهوية الكردية ومجابهة أية خطوة في اتجاه تشكيل سلطة تقف في وجههما ، وهذا ما حفزنا للخوض في هذا الموضوع.

لقد اعتمدنا على جملة مصادر ومراجع لتوثيق الموضوع من اهمها كتاب : كوردستان والإمبراطورية العثمانية لهروتي سعدي عثمان ، الذي أفادنا في معرفة المراحل الأولى للصراع الصفوي-العثماني وتطوراته .

كتاب: تاريخ الدولة الصفوية في إيران 1501-1736م لطقوش محمد سهيل ، حيث أعطانا إضاءات حول تطور النظام السياسي الصفوي في هذه الفترة وأهم جولات الصراع مع العثمانيين .

كتاب: العلاقات الدولية ومعاهدات الحدود بين العراق وإيران : الضابط شاكر صابر، سلط فيه الضوء على التسويات بين الجانبين ومخرجات المعاهدات الإيرانية-العثمانية، كتاب: تاريخ العلاقات العثمانية- الإيرانية الحرب والسلام بين العثمانيين والصفويين لصباغ عباس إسماعيل ، تطرق فيه لأهم محطات الصراع وأثره على بنية كردستان، كتاب:العلاقات العثمانية-الإيرانية للنجار جميل موسى، تضمن المعاهدات الموقعة بين الدولتين.

كتاب: The ottomam-Iranian Border lands making a boundary 1834-1914 :Sabri Ates والذي تناول فيه بالتحليل المعاهدات التي أبرمت بين الجانبين الإيراني والعثماني ونتائجها على كردستان.

1- الصراع الإيراني-العثماني بعد 1514م وتجدده في عهد طهماسب الأول (1524-1576م):

1-1- الصراع الإيراني-العثماني بعد 1514م:

اختلفت الروايات التاريخية حول أصول الكرد، فالكثير من المصادر التاريخية ترجع أصلهم إلى أسلافهم الميديين الذين ينتسبون إلى القبائل الهندو-أوروبية، والتي حلت بالمنطقة بعد موجات هجرات ونزوح كبيرين شهدتهما مناطق بحر قزوين، وبعد زوال الدولة الآشورية سنة 612 ق.م (مرعي، 2006، ص.25)، أقاموا إمبراطوريتهم فيما بين 614 و550 ق.م، ومع حلول سنة 21ه/642م اعتنق غالبيتهم الإسلام، حيث أدوا في ظل الدولة الإسلامية دورا سياسيا معتبرا محافظين بذلك على خصوصيتهم القومية واللغوية(اسكندر، 2007، ص.23).

احتوت كردستان في فترة العصور الوسطى على أكثر من 46 إمارة مستقلة من أبرزها: بتليس، سوران، كيليس، ديار بكر، شهرزور، لور، عمادي، شتقان، سليماني، الإمارة الشمديناينة والإمارة الزندية(حصاف، 2009، ص ص. 49- 50)، وقد اهتمت هذه الإمارات بشؤونها الداخلية، غير أنه ومع إرهاصات القرن السادس عشر الميلادي، بدأت تظهر أهميتها الجيوسياسية، بوصفها تمثل حاجزا استراتيجيا بين الدول الواقعة شرقها وغربها، خاصة بعد نشوب الصراع بين الدولتين الصفوية والعثمانية، هذه الأخيرة كانت تخطط للتوسع في مناطق الشرق الأوسط الآسيوية(اسكندر، 2007، ص.23). مثلت جغرافية كردستان جسرا يجمع بين كل مكونات شعوب المنطقة على اختلاف قومياتها ولغاتها، بفعل امتدادها الجغرافي الشاسع، فهي تقع في شمال غرب إيران، شمال كل من سوريا والعراق، جنوب شرق تركيا وما تبقى منها في أذربيجان وأرمينيا(.(Center for applied linguistics ,1981, p.5

نجح الشاه إسماعيل الصفوي الذي حكم من (1501-1524م) في إخضاع تبريز، بعد أن شكل دولته الجديدة عام 1501م متخذا منها عاصمة له، بعدها أخذ في ضم مناطق عديدة من كردستان والتي تميز حكمه لها بالقوة والشدة، وقد مثلت هذه الخطوة بداية الصراع الذي احتدم بين الصفويين والعثمانيين (كاميران، 2006، ص. 165)؛بعد أن اعتلى السلطان سليم الأول عرش الدولة العثمانية.

شملت توسعات الشاه إسماعيل الصفوي المناطق الشرقية والجنوبية المجاورة لدولته، والتي اعتقد سليم الأول على أن الشاه من خلال هذه التوسعات يريد السيطرة على المواقع الاستراتيجية، لذا أراد أن يقطع عليه الطريق ، خاصة بعد أن استقر له أمر الحكم،وموازاة مع ذلك مواصلة العمل على استقرار الجبهة الغربية مع أوروبا، لذا عقد معاهدات سلام مع البندقية، المجر وروسيا، مؤسسا بذلك لعلاقات سلام مع هذه الدول(طقوش، 2009، ص. 75). إن الغرض من ذلك هو تحويل قواته نحو الشرق، وبالتالي الحد من التوسعات الصفوية الرامية إلى بسط السيطرة على المواقع الاستراتيجية المهمة ضمن المجال الجغرافي الممتد من أرمينيا حتى كردستان وانتهاء بالأناضول الشرقية ومعها العراق(هروتى، 2008، ص. 36).

أمر السلطان سليم الأول بعقد اجتماع طارئ للديوان السلطاني في مدينة أدرنة في 26 مارس 1514م، حضره قادة الجيش، رجال الدين والعلماء، أعلن فيه بداية الحرب على الصفويين(العوفي، 2008، ص.133)، وبذلك بدأ زحفه نحو الشرق في 24 أفريل 1514م، حيث التقى الجيشان في سهل جالديران في شمال شرق بحيرة وان في 23 أوت من السنة نفسها، وبعد مواجهات عنيفة بين الجانبين رجحت كفة العثمانيين على حساب الصفويين، بعد الانتصار الذي حققته قواتهم، حيث خسر الشاه إسماعيل أعدادا كبيرة من جنوده وقياداته، وبذلك تمكن العثمانيون بعد هذه المعركة من ضم أجزاء كبيرة من كردستان إلى مناطق نفوذهم، مع سيطرتهم على الممرات الاستراتيجية المؤدية من الأناضول حتى القوقاز، سوريا وإيران(نايف، 2009، ص. 32).

تمخضت عن معركة جالديران نتائج عديدة من أهمها:

- إخضاع العثمانيين لمنطقة الأناضول بالكامل، عدا الجزء الواقع تحت سلطة المماليك.

- التحاق بعض الأمراء الكرد الذين كانوا موالين للصفويين بالدولة العثمانية، بعد أن أبدوا لها الولاء.

- رغم هزيمة الصفويين في هذه المعركة إلا أن هذه الهزيمة لم تضعف دولتهم، حيث فشل العثمانيون في القضاء عليها.

- توقف الانكشاريين عن مهمة مطاردة بقايا الصفويين، بسبب نقص المؤونة وشدة البرد في فصل الشتاء (طقوش، 2009، ص. 81).

مثلت هذه المعركة نقطة تحول كبرى للشرق الأوسط بوجه عام وكردستان بشكل خاص، فكانت من بين نتائجها تقسيم بلاد الكرد بشكل عملي بيد الدولتين، حازت بموجبه الدولة العثمانية على الجزء الأكبر منها، في حين انضوى ما تبقى منها تحت سلطة الصفويين، حتى أن البعض ذهب إلى القول بأن هذه المعركة كانت نذير شؤم على الكرد(هروتى، 2008، ص. 43).

بعد معركة جالديران خاض الكرد انتفاضة ضد الصفويين، لأجل وضع حد لوجودهم في مناطقهم ، وقد شجعهم في ذلك السلطان سليم الأول، وفعلا استرجعوا بعضا منها في حين بقي البعض الآخر تحت نفوذ الصفويين. إن أهم ما ميز هذا الصراع على كردستان هو محاولة الدولة العثمانية استمالة الكرد لصفها مع منحهم استقلالهم الذاتي ومساعدة الإمارات الكردية ماليا وعسكريا مقابل ولائهم لها، عكس الصفويين الذين كانوا يريدون حكم كردستان حكما مباشرا (العوفي، 2008، ص. 144)، كما أن العثمانيين سمحوا للأسر الكردية الكبيرة بالحفاظ على سلطاتها مقابل طاعتها لهم، ولعل مرد ذلك يعود إلى وعورة تضاريسها وطبيعة مناخها، وهو ما يجعلها عصية على مراقبتها بشكل مباشر، لذا كان ولاء الإمارات الكردية للدولتين اسميا فقط (اسكندر، 2007، ص. 24)، كما أن شراسة الكرد القتالية دفعت بهما إلى مهادنتهم من أجل الاستعانة بهم في الصراع الدائر بينهما.

قام الملا إدريس البدليسي باعتباره ممثلا للسلطان العثماني بالتفاوض مع أمراء الكرد، وكان مضمونه هو اعتراف الدولة العثمانية بسيادة تلك الإمارات على كردستان مقابل خضوعهم، وفعلا نجح في الحصول على ولاء 23 أميرا كرديا ليضم مناطقهم إلى جغرافية الدولة العثمانية. وكتتويج لهذه المساعي عقد معهم السلطان سليم الأول اتفاقية صداقة وتحالف عام 1515م، تضمنت التالي:

- تحتفظ كامل الإمارات الكردية الموقعة على المعاهدة باستقلالها التام.

- تستمر وراثة الإمارة من الأب إلى الابن، أو يتم تنظيم ذلك استنادا إلى أعراف القبيلة، ويعترف السلطان بالوريث الشرعي بفرمان خاص.

- يساهم الكرد بتقديم الهدايا للسلطنة بشكل مصاريف فعلية.

- مشاركتها إلى جانب الجيش العثماني في معاركهالخارجية.

- أن يذكر السلطان العثماني وأن يكون الدعاء له على المنابر في خطبة الجمعة، في مقابل اعتراف الدولة العثمانية بسلطات الإمارات الكردية(العلياوي، 2006، ص. 34).

وهذا ما أورده الملا إدريس البدليسي بالقول: «... أن السلطان سليم الأول... أمرني لدى عودتنا من فتح تبريز، بأن أسعى لدى جميع الأمراء الكرد، المنبثين في كردستان: ابتداء من بلاد " أرمية " و" أشنة " و" ديار بكر" حتى " ملطية " لإدخالهم في الطاعة، قاطعا لهم العهود والمواثيق الإسلامية بالعمل على تأليف ملوك وأمراء كردستان وانضوائهم تحت اللواء العثماني...»(زكي بك، 2005، ص. 65).

نستشف من خلال مضمون هذه المعاهدة بأن الدولة العثمانية تقر بالعصبيات القبلية وشيوخ العشائر، وأن هذه المعاهدة تولد عنها تحالف استراتيجي بينها وبين الكرد، وذلك في حالة نشوب أي نزاع مع أي طرف، مقابل ضمان استقلالهم الداخلي، كما استفادت بعد هذه الاتفاقية من موارد كبيرة لخزينتها، وأنها ضمنت كذلك حماية حدودها الشرقية بوضعها للإمارات الكردية بمثابة جدار يجنبها أي هجوم صفوي.

إن سوء معاملة الشاه إسماعيل للكرد دفع بهم إلى الثورة عليه، كما أن جهود الملا إدريس البدليسي كانت ظاهرة في هذه الثورة، حيث أقنع أمراؤهم وشيوخ العشائر وحكام المقاطعات بالانقلاب على الصفويين، لذا قامت مختلف المناطق الكردية بالثورة ضدهم مثل: ديار بكر، بدليس، أرزن، ميافارقين، كركوك وأردبيل(الدهشان، 2009، ص. 9). من جهته اغتنم الشاه إسماعيل فرصة انسحاب سليم الأول من تبريز، لتقوية الدولة الصفوية داخليا، وهذا بعد أن أعاد تجميع قواته من جديد بعد الخسارة في معركة جالديران، وبعد أن أحس بأن قوته العسكرية بدأت تتعافى، لذلك عاد إلى عاصمته تبريز مجددا، حيث قام بحملات مضادة ضد مراكز الجيش العثماني وعلى محوري أذربيجان، تبريز، كردستان وبلاد الجزيرة، ونجح في استعادة عدة قلاع ومواقع(العوفي، 2008، ص. 145).

إن حملاته دفعت بالكرد إلى مواجهتها مستنجدين بالسلطان سليم الأول، الذي كان متواجدا في أماسيا، حيث أمدهم بقوة عسكرية لدعم الملا إدريس البدليسي، وبعد مواجهات تمكنت هذه القوة من إلحاق الهزيمة بالصفويين في شهر مارس 1516م، إن هذا الانتصار مثل نقلة نوعية في تاريخ العلاقات العثمانية-الإيرانية، كونه جاء مكملا لانتصارهم في معركة جالديران، كما استطاع العثمانيون ضم أراضي جديدة بعد انتزاعها من الصفويين.

في ظل هذه التطورات عمل الكرد على تأمين استقلالهم الذاتي وبسط سلطاتهم المحلية، بعد الاتفاق الكردي- العثماني، فقد عمل الملا إدريس البدليسي على إبعاد المراقبة العثمانية المباشرة للأقاليم الكردية، وبذلك ضمنوا استقلالهم الذاتي رغم قبولهم بالسيادة العثمانية على أراضيهم، في مقابل ذلك كانت الدولة العثمانية تستفيد من مساعداتهم المالية والعسكرية (هروتى، 2008، ص. 137).

لم تف الدولة العثمانية بالوعود التي قطعتها للكرد، حيث عملت على تغيير الوضع القائم في كردستان، فبدأت بفرض سيادتها عليها تدريجيا وعلى مراحل من خلال سياساتها تجاههم، لكنهم دافعوا عن استقلالهم الذاتي رافضين سياسة الأمر الواقع، محافظين بذلك على كياناتهم السياسية وسلطاتهم المحلية لقرون عديدة(هروتي، 2008، ص. 137)، وتبعا لذلك فإن مواقفهم وردود فعلهم تجاه السياسة العثمانية أخذت شكلين هما:

1. نظرتهم للعثمانيين: فقد كانوا في بداية الأمر مرحبين بالوجود العثماني على أراضيهم، لأنهم رأوا فيهم المُخَلٍصين لهم من قسوة وسوء معاملة الصفويين، وأنهم هم القوة المنقذة لهم من هذا الوضع، وأنهم على مذهب ديني واحد، وبالتالي فإن معظمهم كان موقفه ايجابيا تجاه العثمانيين، مع بداية تواجدهم بكردستان، لكن وبسبب التعسف في فرض الضرائب وكثرة المظالم، تغيرت نظرتهم تجاههم فأصبحوا يرون فيهم العدو الذي يريد أن يستغل أراضيهم ويستعبدهم.

2. الحركات الكردية المسلحة: لقد ترجم الكرد حقدهم وعداءهم للعثمانيين في انتفاضات مسلحة مناهضة لوجودهم في بلادهم، بهدف الدفاع عن مصالحهم وأراضيهم وحقوقهم السياسية، وبالتالي العمل على تحقيق وحدتهم القومية كأمة متميزة (Peshawa, 2012, p.42؛هروتى، 2008، ص ص. 138- 140).

1-2- تجدد الصراع في عهد طهماسب الأول (1524-1576م):

بعد وفاة الشاه إسماعيل عام 1524م تولى ابنه الشاه طهماسب الأول الحكم، ولم يكن قد بلغ سن الحادية عشر من عمره، حيث حكم إيران لمدة 54 سنة، مستهلا فترة حكمه بحروب داخلية ضد الاوزبك في الشرق وخارجية ضد العثمانيين في الغرب(العوفي، 2008، ص. 111)، بعد تدهور العلاقات معهم في ظل حكم السلطان سليمان القانوني، مستغلا ولاء بعض الولاة العثمانيين وانضمامهم إليه، خاصة بعد أن أعلن الملا إدريس البدليسي شقه لعصا الطاعة عن العثمانيين وخروجه من التبعية لهم وانضمامه للصفويين ، ما حدا بالسلطان سليمان القانوني إلى الإعلان عن قتاله، بعد أن أمر قائد جيشه الصدر الأعظم إبراهيم باشا بمهمة القضاء على تمرد البدليسي في كردستان، كما قاد بنفسه حملة نحو بغداد دامت لعامين وشهرين وثمانية عشر يوما سميت بـ: "حملة الْعرَاقيْن"، تم فيها الاستيلاء على بغداد عام 1534م حاضرة العراق العربي واصفهان حاضرة العراق الأعجمي،وفي الوقت ذاته احتل مدن تبريز و أذربيجان المهمتين،  مما اضطر الشاه طهماسب الأول إلى الانسحاب داخل بلاده من أجل مواجهة المشاكل الداخلية (مشعل، 2008، ص. 152).

استطاع الشاه طهماسب الأول استعادة إقليم أذربيجان ثم تبريز في 09 ديسمبر 1534م، غير أن العثمانيين عاودوا استردادها، بعدها قفل السلطان سليمان القانوني راجعا إلى اسطنبول، لكن الشاه طهماسب الأول عاد من جديد واسترد تبريز بعد خروج العثمانيين منها مباشرة ضاما معها كل مناطق أذربيجان وصولا إلى مدينة وان(شوقي، 2005، ص. 69).

إن التراجع العثماني والإصرار الصفوي دفعا بالسلطان سليمان القانوني إلى عدم التفكير مجددا في العودة لمقاتلتهم، لأن إعادة هذه المناطق سيكلف الجهد والمال، وأن الصفويين لا محالة سيسترجعونها من جديد، مكتفيا بسيطرته على بغداد وهمذان(العوفي، 2008، ص. 157).

دامت فترة الصراع الصفوي العثماني لأكثر من أربعين سنة، اختزلتها أربع حملات عثمانية على الصفويين الذين كانوا في كل حملة يجابهون العثمانيين، غير أنهم وفي آخر هذه المواجهات أصبحوا يبادرون بالهجوم على حدود العثمانيين الشرقية، وقد وقفت وراء الحملات العثمانية عليهم عوامل كثيرة صعبت من مهمتهم، منها مشكلة تنقل الجيش ونقل العتاد ووعورة التضاريس خاصة في موسم تساقط الثلوج، من جهتهم كان الصفويون يتحاشون المجابهة المباشرة معهم، وذلك بإخلائهم للمناطق التي يمر بها الجيش العثماني، وبالتالي العمل على إعاقة تقدمه، فضلا على أن الطرفان كانا منشغلان بحروبهما في جبهات أخرى(العوفي، 2008، ص. 165).

2-المعاهدات الإيرانية- العثمانية (1555-1847):

2-1- معاهدة أماسيا 29/05/1555م:

أثناء تقدم قوات السلطان سليمان القانوني نحو مدينة أرضروم ثم بعدها أماسيا، وبعد أن تمكن الصفويون من أسر القائد العثماني سنان باشا في إحدى المعارك، عرض الصدر الأعظم محمد باشا على السلطان مسألة عقد صلح مع الشاه مقابل الإفراج عن سنان باشا، وقد وافق الشاه طهماسب الأول على هذا العرض، حيث أوفد مبعوثه شاه قورجي قاجار كبير موظفي الدولة وأحد زعماء قبيلة قاجار القزلباشية إلى مدينة أماسيا، أين كان يقيم السلطان سليمان القانوني للتباحث مع الصدر الأعظم محمد باشا والتمهيد للصلح (طقوش، 2009، ص. 101). وفي29/05/ 1555م وقعت معاهدة أماسيا التي كرست تقسيم كردستان باعتبارها معاهدة رسمية، تضمنت تعيين الحدود بين الدولتين خاصة في مناطق شهرزور، قارص وبايزيد (العلياوي، 2006، ص. 34).

يمكن إدراج ما جاءفيها من خلال مايلي:

1. خضوع ولاية أذربيجان الشرقية، أرمينيا الشرقية وكرجستان الشرقية (جورجيا) للدولة الصفوية، في حين تخضع أرمينيا الغربية، كرجستان الغربية والعراق (الموصل، بغداد والبصرة) للعثمانيين، مع حياد منطقة قارص وأن تكون منزوعة السلاح.

2. السماح لرعايا الدولة الصفوية بالاتجاه نحو مكة المكرمة وزيارة العتبات المقدسة في العراق مقابل الكف عن سب الصحابة على المنابر.

3. تبقى منطقة شهرزور محل مفاوضات بين الجانبين.

4. تعهد كلا الطرفين بعدم استقبال المعارضين لكلا الدولتين أو حتى أصحاب البيوت المالكة، وأن يلتزم الطرفان في حالة لجوؤهم إلى أحدهما بأن يسلم إلى حكومتي بلديهما(العوفي، 2008، ص ص. 167- 168).

تعتبر معاهدة أماسيا بداية مرحلة جديدة في العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين، حيث سمحت من خلالها بحل أي نزاع يمكن أن يحدث، وبذلك اعتبرها المؤرخون أول معاهدة صلح بينهما، كونها استطاعت أن تضع حدا للصراع، بعد أن ساد الهدوء لمدة خمسة وعشرين سنة، لكن تخللته بعض الحوادث من بينها فرار الأمير بايزيد بن سليمان القانوني نحو إيران واستقباله بحفاوة في البلاط الإيراني، لكن هذا السلام كان هشا بسبب تذرع كل طرف بذرائع لتبرير موقفه من بينها:

1. النزاع بين عشائر الحدود وأمرائها خاصة في المناطق التي كانت تحكمها العشائر المحلية وتتمتع بشبه استقلال عن الدولتين، إضافة إلى أن أمرائها كانوا يخوضون صراعات فيما بينهم.

2. الهجمات التي تقوم بها عشائر البدو على طرق القوافل سواء ما تعلق منها بقوافل التجارة أو الحج.

3. هجرة القبائل المتمردة عبر الحدود(هريدي، 1987، ص. 66).

2-2- معاهدة فرهاد باشا (القسطنطينية) 21/05/1590م:

بعد وفاة الشاه طهماسب الأول عام 1576م، تداول على العرش الصفوي بعض أفراد أسرته، الذين كان أقواهم الشاه عباس الأول(الكبير) بن خدا بنده، وفي هذه الفترة عاشت إيران فوضى داخلية وعدم استقرار، لذا انتهز العثمانيون الفرصة من خلال قيام السلطان مراد الثالث بالتوغل داخل الأراضي الإيرانية عام 1578م، مما أدى إلى عودة التوتر من جديد، فاستولى على (شيروان) تفليس، كوجستان وداغستان وكثير من المناطق وذلك لمدة عشرة سنين، غير أن الطرفان عقدا الصلح وأبرما معاهدة فرهاد باشا في 21/05/1590م، ومما جاء في بعض منها ما يلي:

1. أن تكون كل من تبريز، شيروان، كرجستان، لورستان وشهرزور من نصيب الدولة العثمانية.

2. التزام الإيرانيين بعدم القيام بالاستفزازات المذهبية (الضابط، 1966، ص. 21).

وبذلك فإن العثمانيين احتفظوا بمعظم الأراضي التي كانوا قد احتلوها.

2-3- معاهدة نصوح باشا 20/11/1612م:

استغل الإيرانيون فرصة انشغال العثمانيين بحروبهم ضد الدول الأوروبية، فأعادوا تجميع قواتهم بهدف استرجاع ما فقدوه من أراض، وفعلا تمكن الشاه عباس الأول من استرداد كل من تبريز، أريوان وتخجوان عام 1602م، مواصلا زحفه حتى حدود مدينة وان، غير أن العثمانيين ردوا بمهاجمة القوات الصفوية، لكن هذه الأخيرة نجحت في وقف تقدمهم، بعدها اقترح الشاه عباس الأول الصلح، الذي انتهى بتوقيع معاهدة نصوح باشا في 20/11/1612م، تضمنت ما يلي:

1. أن تترك للإيرانيين تبريز، وان وشيروان.

2. أن يدفع الشاه إلى العثمانيين 200 حمل حرير سنويا(الضابط، 1966، ص. 23).

إن هذه المعاهدة سمحت بعودة العلاقات إلى طبيعتها، بعد أن استرجعت من خلالها إيران ما تبقى من أراضيها.

2-4- معاهدة سراو 26/09/1618م:

لم تدم فترة السلام بين الجانبين إذ سرعان ما انهار، لتندلع الحرب مجددا والتي دامت لثلاث سنوات، بعد أن قرر العثمانيون القيام بعمل عسكري بحجة أن الصفويين لم يوفو بالتزاماتهم المتمثلة في تأدية الشاه عباس ضريبة الحرير، التي تعهد بدفعها سنويا، تزامن ذلك مع اعتداءاته المتكررة على كرجستان، مما دفع بالجيش العثماني إلى مهاجمة بعض المدن الإيرانية وإطباق الحصار عليها، مما دفع بالإيرانيين إلى التعهد بدفع نصف ضريبة الحرير التي التزموا بدفعها سنويا، إلا أن الأجواء تعكرت من جديد ووصلت حد المواجهة العسكرية التي انتصر فيها الصفويون. ولفض الصراع عرضوا على العثمانيين عقد معاهدة يكون أساسها ما ورد في المعاهدة السابقة(الضابط، 1966، ص ص. 26-27)، والتي أنهت الحرب، حيث وقّعت في26/09/1618م تضمنت ما يلي:

1. الإبقاء على وضع الحدود قائما كما نصت عليه معاهدة أماسيا.

2. الإبقاء على بعض بنود مواد معاهدة القسطنطينية كما هي عليه (النجار، 2016، ص.193).

مثلت هذه المعاهدة تحولا لافتا في العلاقات بين الطرفين، كون المفاوضات جرت على الأراضي الإيرانية، والتي كانت عادة ما تجرى على الأراضي العثمانية وتحديدا في اسطنبول، بعدها عم السلام لمدة خمس سنوات، سمحت بعودة الحياة الطبيعية لطرق التجارة، تخللها تبادل الرسائل بين عباس الأول وعثمان الثاني(طقوش، 2009، ص. 180).

2-5- معاهدة زهاب (قصر شيرين) 17/05/1639م:

لم تصمد معاهدة سراو كثيرا، إذ سرعان ما انهارت بسبب سياسات الشاه عباس الأول في إحكام الخناق الاقتصادي على الدولة العثمانية وبالتالي حرمانها من تحصيل للضرائب على تصدير الحرير الإيراني الذي يمر عبر أراضيها، واستيلائه على بغداد عنوة سنة 1623م، مع ضم كل من كركوك والموصل التي تمكن السلطان العثماني مراد الرابع من استعادتها عام 1638م (صباغ، 1999، ص. 194).

أمام هذه التطورات دخل الطرفان وذلك بعد مساعي دبلوماسية حثيثة في مفاوضات دامت عاما كاملا أفضت إلى توقيع معاهدة زهاب (قصر شيرين) على الحدود العراقية الإيرانية في17 /05/1631م نصت على ما يلي:

1. يخضع لحكم الدولة العثمانية كل من: بغداد، جسان، بدرة، مندلي، درنة والأراضي الواقعة بين درنتك وسرحيل، القرى الواقعة غربي قلعة زنجير إلى طريق شهرزور، قلعة قزلجة وتوابعها، جميع القلاع في أخسجة، قارص، وان، شهرزور، البصرة، كما خضعت قبيلتي ضياء الدين وهاروني الكرديتين للعثمانيين.

2. يخضع للدولة الصفوية كل من القلاع الواقعة شرقي مندلي، درنتك، بيرة، زردويكه، زمردهاوا، الغابات الواقعة شرق قلعة زنجير ومهربان، قلعتي كاكوروماكور الواقعتين في أعالي جبال وان و قلعة مغاذير الواقعة في منطقة قارص.

على العموم فإن بغداد، البصرة، الموصل وكردستان الغربية (شهرزور)، تخضع للدولة العثمانية في مقابل خضوع أذربيجان الشرقية وكرجستان للدولة الصفوية(صباغ، 1999، ص. 195؛ هريدي، ص ص. 75-76).

يمكن القول، أن من بين نتائج هذه المعاهدة فتح صفحة جديدة في العلاقات بين الطرفين التي سادها الطابع الودي والاستقرار على طرفي الحدود، وهذا بسبب جنوحهما إلى السلم خاصة وأن الصفويين كانوا جد حريصين على حالة الاستقرار والسلام، كما بادلهم العثمانيون نفس التوجه.

اعتبرت هذه المعاهدة حجر الأساس في تثبيت الحدود بينهما، فهي ترسيخ لتقسيم كردستان، وميزتها أنها لم تكن معاهدة صلح فقط، بل زاد عليها الطرفان بأن أصبحت اتفاقا لترسيم الحدود كذلك (كاميران، 2006، ص.168)، بحيث كانت واضحة في رسمها، وذلك بشكل دقيق نسبيا مع مراعاة طبيعة التضاريس، غير آخذة بعين الاعتبار تمركز السكان الكرد، حتى أنها قسمت قبائل كردية إلى قسمين، فقد ضمت جزءًا من عشيرة الجاف وهو: بيرة وزودي إلى إيران، في الوقت الذي وقعت فيه أسرتا ضياء الدين وهاروني تحت الحكم العثماني(طقوش، 2009، ص ص. 219 220).

إن من بين مظاهر تحسن العلاقات إرسال الشاه عباس الثاني عام 1656م هدايا للسلطان العثماني مع مبعوث يحمل رسالة يطلب من خلالها الحفاظ على الصلح الذي أبرم بين الطرفين. من جهته كان رد السلطان ايجابيا، حيث أرسل بدوره إلى الشاه هدايا، كما أرسل الإيرانيون عام 1689م مبعوثا إلى اسطنبول لتهنئة السلطان سليمان الثاني بمناسبة توليه حكم السلطنة (عبد الله، 2014، ص. 307).

لم تدم حالة الهدوء والسلام طويلا، فمع حلول القرن الثامن عشر بدأت مؤشرات الغزو الأفغاني لإيران مع نهاية عام 1719م وإسقاطه للدولة الصفوية بشكل نهائي عام 1722م، ولتعويض ما خسره العثمانيون من ممتلكات في أوروبا، قاموا بالتوسع على حساب إيران مستغلين فرصة احتلالها من قبل الأفغان، وفعلا اصدر السلطان العثماني أمرا إلى والي بغداد بقيادة حملة عليها، مكنته من احتلال مناطق عديدة منها، وهكذا بقيت المواجهات تتجدد في سنوات 1726م- 1727م و 1733م (عبد الله، 2014، ص. 309).

2-6- معاهدة أرضروم الأولى 28/07/1823م:

افتتحت الأسرة القاجارية عهدها بعد عام 1795م، بتوسيع مجال مواجهتها للعثمانيين، حيث كانت في كل مرة ترى فيها بأن الدولة العثمانية تخوض حروبها ضد الأوروبيين أو الروس إلا وقامت بأعمال استفزازية أو عسكرية تجاهها، مثلما وقع عند الحدود الإيرانية العثمانية وتدخلها في شؤون شمال العراق في متصرفيات كل من السليمانية، شهر زور، حرير، كوي وغيرها، كما قامت بمضايقة القوات العثمانية في قارص وبايزيد في الأناضول. إن الانتصارات المهمة التي أحرزها الإيرانيون جعلت الشاه زاده عباس ميرزا يعرض الصلح على والي أرضروم سنة 1823 (النجار، 2016، ص. 38).

لتذليل الصعاب والبحث عن تهدئة بين الجانبين عقدت جلسات في أرضروم، جمعت

رؤوف باشا والمبعوث الإيراني ميرزا محمد علي اشتياني، توجت بتوقيع معاهدة أرضروم الأولى في 28 /07/ 1823م(Sabri, 2013, p 54)، وتم التصديق عليها في طهران وإسطنبول في 23 أوت من السنة نفسها. احتوت ديباجتها على ضرورة توحيد صفوف المسلمين للوقوف في وجه أعدائهم، مع التمسك بالجامعة الإسلامية وأن الحدود ستبقى كما هي عليه وأن تكون المحبة والصداقة أساس العلاقة بين الجانبين مع التزام الطرفين بإطلاق سراح الأسرى ومنع الأعمال العدائية(النجار، 2016، ص.40).

تضمنت المعاهدة مقدمة ومواد وخاتمة وهذه المواد هي:

- المادة الأولى:

لا يجوز تدخل الدولة في الشؤون الداخلية للدولة الثانية ولا يجوز تدخل الدولة الإيرانية في شؤون الكرد في العراق كما لا يجوز لها التدخل في تعيين بغداد لمتصرفيات الكرد والمحلات الأخرى داخل الحدود، ولا يجوز للدولة الإيرانية الترحيب بالمتصرفين الكرد في أي حال من الأحوال. إن العشائر التي عبرت الحدود من جانب إلى آخر لأجل رعي حيواناتهم تجبى منهم الرسوم الاعتيادية وإذا ظهرت منهم حوادث مخلة بالأمن وباعثة على القلق، يتدخل كل من عباس ميرزا ووالي بغداد لحل النزاع وبحله يجب أن يزول الكدر والنفرة من الدولتين.

- المادة الثانية:

أن يراعى الحجاج والزوار الإيرانيون كما يراعى سائر المسلمين في البلاد العثمانية، ولا  يجوز أخذ الرسوم غير الشرعية منهم، وأن يعامل التجار حسب الأصول الجمركية، ويقابل ذلك التجار العثمانيين في البلاد الإيرانية، وتطبق هذه كما هو مثبت في المعاهدات السابقة، وعلى أمراء الحج أن يلاحظوا هذه الأمور أثناء سفر الحجاج الإيرانيين على طريق الشام الشريف والأراضي المقدسة وعلى المسؤولين محافظتهم واحترام مقام الشخصيات البارزة من الإيرانيين الذين ينوون الحج أو الزيارة للعتبات المقدسة، وإذا دفع تاجر إيراني الرسوم الجمركية وهي نسبة 04 % قروش مرة واحدة تعطي له الوثيقة الجمركية لإبرازها طوال الطريق لئلا تؤخذ منه الرسوم مرة أخرى وعلى أن يطبق ذلك على التجار العثمانيين في الدولة الإيرانية.

- المادة الثالثة:

تمنع عشائر (حيدرايلو) و(سبيلكى) من النهب والتخريب عبر الحدود في إيران طالما هم  موجودون في الأراضي العثمانية، ويسمح لمن أراد السكنى في إيران عبور الحدود وإذا عبر الحدود لهذه الغاية لا يسمح له بالرجوع إلى البلاد مرة ثانية. وتمنع الحكومة الإيرانية تجاوزاتهم على الحدود العثمانية فيما إذا كانوا ساكنين في إيران.

- المادة الرابعة:

لا يجوز الترحيب بالفارين من دولة إلى أخرى كما نصت عليه القرارات والشروط المعقودة بين البلدين في السابق.

- المادة الخامسة:

إعادة الأموال التجارية وغير التجارية التي حجزت في إسطنبول والولايات العثمانية الأخرى إلى أصحابها بموجب سجلات وبمعرفة سفير إيران وعند موت أصحابها تجرى على تلك الأموال الإجراءات الشرعية الإسلامية من تسليمها إلى أصحاب الورثة الشرعية، وعند عدم وجود الورثة ترجع إلى خزينة الدولة.

- المادة السادسة:

تحصل الأموال المتروكة للإيرانيين المتوفين من البلاد العثمانية وتسلم إلى أصحاب الورثة.

- المادة السابعة:

يحصل تبادل السفراء بين الدولتين في كل ثلاث سنوات.كما جاء في الخاتمة المطولة، صرف النظر عن المطالبة بتعويض الخسائر أو المصاريف الحربية وغيرها(الضابط، 1966، ص ص. 58-60).

لقد غيرت المعاهدة لغة الخطاب بين الجانبين، وذلك بعد أن وضعت حدا لطبيعة الأزمة  والصراع بينهما، فعلى سبيل المثال استطاعت إيران أن تحصل على ضمانات للحجاج الإيرانيين بضرورة حمايتهم من قبل السلطات العثمانية، وأن يعاملوا كبقية مسلمي البلدان الأخرى، وألا يطلب منهم دفع رسوم، وحتى زوار العتبات المقدسة والذين لا يحملون معهم بضائع يعفون من دفعها (Sabri, 2013, p.55).

إذا كانت معاهدة أرضروم الأولى لم تجد حلولا ناجعة لجميع نزاعات الحدود الإيرانية

العثمانية، إلا أنها على الأقل عملت على التقليل منها ومنع تفاقمها والحيلولة دون حدوث مواجهة(عبد الله، 2020، ص. 293)، لكن ومع وصول محمد علي شاه قاجار إلى الحكم، بدأت مرحلة جديدة ميزتها عودة الخلافات الحدودية من جديد، وكانت كردستان دائما حلبة لهذا الصراع خاصة حول إمارة بابان بوجه خاص، مما أدى إلى حدوث الاحتكاك العسكري المستمر بين الجانبين ما نتج عنه تأجيج الخلافات أكثر (الزبيدي، (د.ت)، ص. 48؛ كاميران، 2006، ص. 172)، الأمر الذي دفع بالدولة العثمانية إلى إيفاد ممثل عنها إلى إيران للاحتجاج على هذا السلوك.

2-7- معاهدة أرضروم الثانية 31 /05/1847 م:

جرى توقيع معاهدة أرضروم الأولى، في ظروف لم تكن تسمح بتسوية نقاط خلافية  كبيرة، خاصة ما تعلق منها بالحدود بين الدولتين، كما أن إيران لم تتوان في التدخل مجددا في شؤون العراق، وبالضبط في شماله، رغم تعهدها بذلك (النجار، 2016، ص. 42)، فقد كانت تنتظر الفرصة المواتية للتدخل في أحواله بالخصوص في سنة 1832 مستغلة صراع الدولة العثمانية مع اليونان وروسيا. وأمام هذه التدخلات الإيرانية المتكررة وبعد مضي عقدين من الزمن، اقتنع الطرفان بضرورة الجلوس إلى طاولة التفاوض من أجل صياغة معاهدة جديدة تساعد على حل المشاكل الجوهرية العالقة بينهما كمشكل الحدود وتبعية العشائر المتنقلة على أراضيهما، لأنهما في ظل هذه الظروف لم يكونا مستعدان ولا مهيآن للمواجهة أساسا، وهذا ما أعطى فرصة الوساطة الروسية البريطانية، بعد أن اتفقتا على التدخل لمنع اشتعال فتيل الحرب مجددا بين الجانبين (Sabri, 2013, pp. 63-64).

كان حرص الروس والبريطانيين على الوساطة نابعا من تأمينهما لمصالحهما في المنطقة، فالروس كانوا يتوخون من وراء ذلك ترسيخ حضورهم في إيران، وقطع الطريق أمام البريطانيين فيها، والتواجد في مياه البحر الأبيض المتوسط. وبعد قبول الطرفين الإيراني والعثماني بالوساطة، انطلقت مفاوضات عسيرة استغرقت أربع سنوات، شملت ثمانية عشر جلسة، كللت بتوقيع المعاهدة في 31/05/1847 م (الزبيدي، (د.ت)، ص. 49)

إن الوساطة الروسية البريطانية والضمانات التي قدمت للطرفين تحت إشرافهما المباشر، شكلت مرجعية لحالة سلام دائم بين الدولتين، مع عزمهما على إيجاد حلول لمشاكل الحدود من خلال مسحها، تعيينها ووضع خرائط لها من قبل جهات دولية (النجار، 2016، ص. 45)، مع تمتع كل طرف بسيادته عليها، ورد فيها ما يلي:

- المادة الأولى:

تتنازل الدولتان الإسلاميتان عن كل ما للواحدة على الأخرى من ادعاءات مالية في الوقت

الحاضر، على شرط أنه ليس في هذا الترتيب ما له مساس بالأحكام الموضوعة لتسوية الادعاءات التي تبحث فيها المادة الرابعة.

 

- المادة الثانية:

تتعهد الحكومة الإيرانية بأن تترك للحكومة العثمانية جميع الأراضي المنخفضة أي  الأراضي الكائنة في القسم الغربي من منطقة زهاب وتتعهد الحكومة العثمانية بأن تترك للحكومة الإيرانية القسم الشرقي أي جميع الأراضي الجبلية من المنطقة المذكورة بما في ذلك وادي كرند، وتتنازل الحكومة الإيرانية عن كل ما لها من ادعاءات في مدينة السليمانية ومنطقتها وتتعهد تعهدا رسميا بأن لا تتدخل في سيادة الحكومة العثمانية على تلك المنطقة أو تتجاوز عليها، وتعترف الحكومة العثمانية بصورة رسمية بسيادة الحكومة الإيرانية التامة على مدينة المحمرة ومينائها وجزيرة خضر والمرسى والأراضي الواقعة على الضفة الشرقية أي الضفة اليسرى من شط العرب التي تحت تصرف عشائر معترف بأنها تابعة لإيران.

وفضلا عن ذلك فللمراكب الإيرانية حق الملاحة في شط العرب بملء الحرية وذلك من  محل مصب شط العرب في البحر إلى نقطة اتصال حدود الفريقين.

- المادة الثالثة:

لما كان الفريقان المتعاقدان قد تنازلا بهذه المعاهدة على ادعاءاتهما الأخرى المختصة  بالأراضي، فإنهما يتعهدان بأن يعينا حالا قوميسرين ومهندسين بمنزلة ممثلين عنهما من أجل تقرير الحدود بين الدولتين بصورة تنطبق على أحكام المادة المتقدمة.

- المادة الرابعة:

يوافق الفريقان على أن يعينا في الحال قوميسرين من الجانبين للحكم في كل قضية سببت  ضررا لأحد الفريقين وتسويتها تسوية عادلة من القضايا التي وقعت منذ قبول الاقتراحات الودية التي وضعتها وقدمتها الدولتان الكبيرتان الوسيطتان في شهر جمادى الأول سنة 1261 هـ، وكذلك للحكم في جميع المسائل المتعلقة برسوم الرعي منذ السنة التي وضعت فيها بقايا في تلك الرسوم وتسويتها تسوية عادلة.

- المادة الخامسة:

تتعهد الحكومة العثمانية بأن يقيم الأمراء الإيرانيون الفارون في بورصة وبأن لا يسمح لهم بمغادرة ذلك المحل ولا بأن تكون لهم علاقات سرية بإيران، وكذلك تتعهد الدولتان الساميتان بتسليم جميع المهاجرين للآخر عملا بأحكام معاهدة أرضروم الأولى.

- المادة السادسة:

على التجار الإيرانيين أن يدفعوا الرسوم الجمركية على بضائعهم عينا أو نقدا حسب قيمة تلك البضائع الجارية الحالية وعلى المنوال المشروح في المادة المتعلقة بالمتاجرة في معاهدة أرضروم الأولى المنعقدة في السنة 1238 هـ (1823 م)، ولا يستوفى شيء إضافي ما علاوة على المقادير المعينة في تلك المعاهدة.

- المادة السابعة:

تتعهد الحكومة العثمانية بمنح الامتيازات المقتضية لتمكين الزوار الإيرانيين وفق المعاهدات السابقة من زيارة الأماكن المقدسة في الأراضي العثمانية بسلامة تامة ومن غير التعرض لمعاملات مزعجة مهما كانت وكذلك لما كانت الحكومة العثمانية راغبة في تقوية وتوثيق عرى الصداقة والتفاهم الواجب بقاؤهما بين الدولتين الإسلاميتين وبين رعاياهما فإنها تتعهد باتخاذ أنسب الوسائل التي من شأنها أن تؤمن أمر التمتع بالامتيازات المذكورة في الأراضي العثمانية ليس للزوار فحسب بل لجميع الرعايا الإيرانيين وذلك بصورة تحميهم من كل ظلم أو خشونة سواء أكان ذلك فيما يتعلق بأعمالهم التجارية أم بأي أمر آخر.

وفضلا عن ذلك تتعهد الحكومة العثمانية بالاعتراف بالقناصل الذين قد تعينهم الحكومة الإيرانية في أماكن واقعة في أراض عثمانية تتطلب وجودهم بداعي المصالح التجارية أو لحماية التجار وسائر الرعايا الإيرانيين إنما تستثنى من ذلك مكة المكرمة والمدينة المنورة، وتتعهد فيما يخص القناصل بأن تحترم جميع الامتيازات التي لهم حق التمتع بها بناء على صفتهم الرسمية والممنوحة لقناصل الدول المتحابة الأخرى، وتتعهد الحكومة الإيرانية فيما يخصها بتطبيق أصول المعاملة المتبادلة من جميع الوجوه بحق القناصل الذين تعينهم الحكومة العثمانية في أماكن واقعة في إيران، ترى تلك الحكومة لزوما لتعيين قناصل فيها، وكذلك تتعهد بتطبيق أصول المعاملة المذكورة على التجار العثمانيين وعلى سائر الرعايا العثمانيين الذين يزورون إيران.

 

- المادة الثامنة:

تتعهد الدولتان الإسلاميتان المتعاقدتان الساميتان باتخاذ وتنفيذ الوسائل اللازمة لمنع ومعاقبة السرقات والسلب من جانب العشائر والأقوام المستقرة على الحدود، وتقومان لذلك الغرض بوضع الجنود في مراكز ملائمة وتتعهدان فضلا عن ذلك بالقيام بالواجب المفروض عليهما إزاء مختلف أعمال التعدي كلها، كالنهب واللصوصية والقتل مما قد يقع في أراضيهما.

على الدولتين المتعاقدتين الساميتين فيما يخص العشائر المتنازل فيها، والتي لا يعرف لمن السيطرة عليها أن تتركها حرة في اختيار وتقرير الأماكن التي سيقطنونها دائما من الآن فصاعدًا أما العشائر التي تعرف لمن السيطرة عليها فترغم على المجيء إلى داخل أراضي الدولة التابعة لها.

- المادة التاسعة:

تٌؤَيَدُ بهذا من جديد جميع النقاط والمواد المدرجة في معاهدات سابقة ولاسيما المعاهدة

المنعقدة في أرضروم في السنة (1238 هـ - 1823 م)- والتي لا تعدلها أو تلغيها هذه المعاهدة بصورة خاصة، ويسري هذا التأييد إلى نصوصها كلها كما لو كانت قد نشرت بحذافيرها في هذه المعاهدة. وتوافق الدولتان الساميتان على تقبلها وتمضيا هذه المعاهدة عند تبادل نسخها وعلى أن يتم تبادل وثائق إبرامها في ظرف مدة شهرين أو قبل ذلك (الضابط، 1966، ص ص.63، 66؛ .(Sabri, 2013, pp. 129 – 130

3- أثر المعاهدات علي البناء الجغرافي، السياسي، الاقتصادي و الاجتماعي لكردستان:

3-1 أثرها علي البناء الجغرافي:

انتشر الكرد بشكل مكثف ومتماسك ضمن فضاء شمل المنطقة المحصورة بين عراق العرب وعراق العجم، فمجال انتشارهم الجغرافي يمتد شمالا بمحاذاة بحيرة أرومية حتى حدود القوقاز، أين تندرج ضمنه الهضبة الأرمينية، ومن حدود القوقاز يمتد غربا إلى أعماق آسيا الصغرى ليصل سيواس وقونية(صباغ، 1999، ص. 125).

إن استيطانهم لهذه الرقعة الجغرافية الواسعة جعلهم عرضة للتقسيم الجغرافي بين الدولتين الايرانية والعثمانية في إطار صراعهما عليها، حيث خضع للدولة الايرانية كرد كل من كرمنشاه، كردستان (سندج)، كاروس، قسم من أذربيجان، كل مناطق ساوجيلاغ (مهاباد) حتى جنوبي بحيرة أرومية وغربي نهر تاتا، كذلك كرد كل من سلماس، خوي وماكو، في حين خضع للدولة العثمانية كرد كل من ولايتي بدليس، وان، كرد سنجق، هكارى، كرد منطقة ديار بكر، خربوط، جزيرة بن عمر، كرد الموصل، كرد شهرزوروبذلك حصلت الدولة العثمانية على ثلاثة أرباع مساحة كردستان،ما جعل ولائهم لدولة معينة لم يكن ثابتا، بل كان يمتاز بالتغير تبعا  لتبدل المناخ السياسي(صباغ، 1999، ص 120)، ومرد ذلك للأسباب التالية:

- السبب الجغرافي: موقع كردستان الوسطى بين ايران، العراق، والأناضول

- السبب الاثني: حيث كانوا يشعرون دوما بأنهم متميزون عن الإثنيات الأخرى،مما ولد عندهم الرغبة في السعي نحو الانفصال وعدم الانسجام مع بقية المكونات الأخرى في المنطقة

- السبب القبلي: يعتبر زعيم القبيلة المرجعية الأولى وليست الدولة التي ينتمون اليها (صباغ، 1999، ص. 120).

3-2 أثرها على البناء السياسي:

تمكنت اغلبية العشائر الكردية التابعة للدولة العثمانية من تكوين امارات ومناطق مستقلة بشكل شبه كامل  عنها منها: امارات بوتان، سنجار، رواندز، بيازيد، درسيم، حكاري، بالو، بركر، السليمانية، جولا مرك، خرشاب وغيرها، في حين أن الإمارات التابعة لايران لم تكن مرتبطة كذلك رسميا بالسلطة المركزية هناك، بل كان ارتباطها شكليا، وقد قسمت هذه الكيانات السياسية من حيث هيكلتها الإدارية طيلة فترة حكم الإمبراطورية العثمانية إلى أربع مستويات، أكبرها سميت بالولاية أو المقاطعة، والتي كانت تدار من قبل الوالي، أما المستوى الثاني فكان السنجق أو اللواء، حيث كان يحكمه المتصرف، أما القضاء فكان تحت إدارة القائمقام، وأخيرا الناحية، حيث كانت تخضع للمدير (حصاف، 2009، ص ص. 152 - 153)، أما الأمراء الكرد فكانوا يُدْعون بالأمير أو الحاكم أو المتصرف وفي غالب الأحيان يطلق على أغلبيتهم لقب باشا، بينما أطلق على الأمراء الكرد التابعين لإيران لقب خان (Hawkar, 2017, p. 34 ؛هروتي، 2008، ص. 194).

منذ حلول القرن التاسع عشر، كانت الامارات الكردية ومعها سلطة القبائل المحلية تديرها كونفدراليات قبلية وهي كالتالي:

إمارة سوران في منطقة حرير وراوندز

إمارة بابان في منطقة السليمانية

إمارة العمادية في منطقة بادينان

إمارة بوتان في منطقة جزيرة بن عمر

إمارة أردان لانفي منطقة كردستان ايران

لقد ظهرت سلطة القبائل الكردية في العديد من المدن والقرى، رغم أنها لا تملك صفة الإمارة، لكنها لعبت دورا أساسيا واجتماعيا في المنطقة، من جانبهم كون العثمانيون اتحادات قبلية أو شعبية وهي بمثابة اتحادات موازية لسلطة الإمارات الكردية، خاصة في ديار بكر مثل اتحاد بوز ألوس أو الشعب الرمادي وهو من بقايا اتحاد آلاق قوينلو، مؤلف من قبائل تركمانية وكردية، حيث بلغ تعداده حوالي 75000 نسمة، يقضي أفراده فصل الشتاء في الصحراء السورية أما فصل الصيف فيقضونه في منطقة ديرسيم/تونجلي، في حين كان يطلق على الاتحاد القبلي الكردي الثاني اسم قرة ألوس أو الشعب الأسود (عبد الله، 2020، ص ص. 273 - 274).

سعت الحكومة المركزية في كل من اسطنبول وطهران إلى تعزيز سلطتها في المناطق الكردية الخاضعة لها، تجلى ذلك خاصة في عهد السلطان محمود الثاني، الذي سعى إلى تقوية النزعة المركزية (centralization)، وكذلك فعلت ايران للحيلولة دون اقامة الأمراء الكرد دولة كردية كبيرة مستقلة(اسكندر، 2007، ص. 37)، كما يلاحظ بأن سياسة العثمانيين والايرانيين ارتكزت على استمالة أمراء الكيانات المحلية الكردية التي تنال ثقتهم لغرض الارتباط بالدولتين وخدمة أهدافهما في الداخل والخارج(دلير، شاويس، (د. ت)، ص. 29).

قسمت السلطات العثمانية كردستان إلى إيالات منها:

-ايالة الموصل: مركزها مدينة الموصل والتي تضم ست سناجق مقسمة الي مائتين واحدى وسبعين مقاطعة

_  ايالة شهرزور: قسمت الي واحد وعشرين سنجقا يحكمها باشاوات من الكرد

_  ايالة لرستان

_  ايالة كردستان(صباغ، 1999، ص. 261).

قام السلطان محمود الثاني منذ عام 1826م، بإدخال اصلاحات في محاولة منه لتأسيس الادارة المدنية في كردستان، حتى تتسنى له مراقبة المنطقة وتقوية نفوذ الدولة فيها، غير أن أمراء الكرد رفضو هذا الاجراء معتبرين اياه تعديا على سلطاتهم (غريب، 1973، ص . 17).

لم يكن زعماء الامارات الكردية ليخضعوا بسهولة إلى سلطات الدولتين، فقد ثبت بأن الأمير محمد باشا وبعد تسلمه زعامة امارة سوران عام 1814م، قام بتحدي السلطات العثمانية، كما كان الأمير بدر خان أمير بوتان، والذي تولى الحكم عام 1821م لايعترف بالسلطان العثماني، حيث عمل جاهدا على تحقيق طموحات الكرد في اقامة كيانهم القومي الخاص بهم،فكان يرفض استقبال ممثلي الدول الأوروبية بأوامر من السلطان العثماني، ومن دلائل استقلاليته عن الدولة العثمانية أنه أثر عنه قوله مايلي:"... أنا حاكم هذه البلاد. وليس السلطان العثماني، حتى وان كان السلطان أكثر قوة مني ولكنى أتفوق عليه بكوني أكثر أصالة وشهرة منه، لأنني أعمل من أجل أن لا أضطهد أو أجور شعبي ..."(مراد، 2015، ص. 11)، حتى ذهب البعض إلى اعتباره أب الحركة القومية الكردية.

لقد أبان الكرد عن استعدادهم الدائم للتضحية، ورفض الواقع السياسي المفروض عليهم، رغم وصف هذه الحركات من قبل سلطات البلدين بأنها حركات تمرد، عصيان، خروج عن السلطة والنظام، كي لا تضفى عليها صفة الشرعية، لذا كانت هذه الثورات والانتفاضات تواجه بشدة وقسوة بالغتين، وغالبا ما تتبع بعمليات السلب والنهب وأحيانا السبي. شارك الكرد ضمن الجيشان الايراني والعثماني وقد اشتهروا ببسالتهم وشجاعتهم، فعلى سبيل المثال ساهمت كل من أربيل، مندلى، كويه، حرير زهاب وبادينان بقواتها في جيوش الايالات العثمانية، كما أن الامارات الكردية التابعة لايران كانت تقوم بنفس المهام (هروتي، 2008، ص. 176).

إن سياسة الدولتان أدت إلى اصطدام الكرد بالسلطة المركزية لكليهما ووقوفهم ضد سياسة التتريك  وكذا السياسة الإيرانية، ورغم أن حكم العثمانيين لكردستان دام حوالي 400 سنة إلا أن نهايته كانت ما سمي اليوم بكردستان العراق أو جنوب كردستان، كردستان سوريا أو غرب كردستان أما الجزء الأكبر من بلاد كردستان أو كردستان تركيا فمازال تحت حكم ورثة العثمانيين، فيما آل حكم كردستان الشرقية إلى الإيرانيين.

 3_3 أثرها علي البناء الاقتصادي:

عانت كردستان من نزيف اقتصادي حاد طيلة فترة الصراع بين الدولتين والتى استمرت لمدة 3 قرون ونصف تقريبا، رغم توقيعهما للعديد من المعاهدات، وبما أن المجتمع الكردي وعلى غرار مجتمعات المنطقة، هو مجتمع زراعي،فإن نظام الاستغلال الزراعي العثماني-الايراني الاقطاعي كان يعتمد علي استغلال الأرض، فكانت الأراضي التابعة للدولة العثمانية تقسم كالتالي:

_ ميري: أملاك الدولة

_ أوقاف: أملاك تابعة لمؤسسات دينية.

كما قسمت الميري بدورها إلى قسمين:

_ أراضي تابعة للسلطان مباشرة (الأراضي السلطانية)

_ الاقطاعات الحربية ( المنح والاقطاعات)

أما نظام استغلال الأرض الايراني فقسم إلى أربعة أقسام وهي:

_ الأملاك الخاصة: وهي خاصة بالشاه والأسرة الصفوية الحاكمة، حيث يتم تأجيرها الي أشخاص معينين مقابل ثلث ما  تنتجه.

_ سيورغال (الانعام) وهي اقطاعات تعود إلى كبار رجال الدولة، رجال الدين و الأشراف وكانت تورث من جيل إلى أخر

_ أراضي الممالك: حيث كانت تمنح للحكام المحليين(صباغ، 1999، ص ص. 83، 225، 226).

لقد نتج عن نظام الاستغلال الزراعي هذا عدم استغلالها استغلالا جيدا، وأن الفلاح لم تكن له الحافزية للعمل، كما أن اضطراب الأوضاع السياسية وفقدان الأمن قلصا من مجموع المساحات الزراعية، تضاف إليها الحملات العسكرية التي يعلنها الولاة لإخضاع العشائر المتمردة، والتي تؤدي إلى إحراق المحاصيل الزراعية أو إتلافها أو تركها بورا، وقد زاد في تدهورها انتشار الأوبئة والأمراض الفتاكة (عبد الله، 2014، ص 493). أما في المجال الصناعي فان حالة التخلف الاقتصادي، أنتجت صناعة هزيلة وهشة، لم تكن لترقى إلى مستوى النهوض الصناعي بأوروبا.

 امتازت التجارة في العهد العثماني والايراني بالتخلف وببدائية وسائل النقل و المواصلات، انعدام الأمن في الطرقات، عجز الدولتان عن حماية التجار، كما كان لتدني مستوى دخل الأفراد دور في تراجع التجارة الداخلية وبالتالي ضعفها (عبد الله، 2014، ص.501).

مس تنوع الضرائب سكان كردستان بشكل كبير، فقد أثر تحصيلها خصوصا على القطاع الزراعي، الذي كانت ضرائبه تدر أرباحا طائلة على خزينة الدولتين، منها ما تؤخذ بشكل عيني أو نقدي (العشور)، ضريبة زراعية أخرى تسمى رسوم وهي خاصة بالبساتين والكروم، الضرائب التي تجبى من تربية المواشي والحيوانات،ضرائب المحال كمحال العطارة، الطواحين، الأفران وغيرها، والتي كانت تحصل على شكل رسوم سنوية، ضرائب المصادرات وهي من بين أهم أنواع الضرائب، بحيث كانت تذهب إلى خزينة الدولة مباشرة، حتى أنها أعتبرت من بين أهم أسباب ترسيخ الشاه عباس الأول لحكمه المركزي وتقويته للبنية الاقتصادية للدولة، بالإضافة إلى ضرائب التجارة على رأسها الرسوم الجمركية التي قدرت نسبتها مابين3%الي4% علي التجار، كل هذه الضرائب كانت تفرض من قبل سلطات الدولتان (صباع، 1999، ص ص. 85 - 99).

تذكر بعض المصادر التاريخية بأن منطقة ديار بكر مثلت مصدر دخل كبير للاقتصاد العثماني طيلة قرون، فقد قارب دخلها عام 1528م ما يعادل دخل الدولة الذي يأتيها من كافة ولاياتها في منطقة البلقان (صباغ، 1999، ص.79). لم يكن الأهالي الكرد يعانون من ارتفاع نسب الضرائب فحسب، بل كانوا كذلك عرضة لتجاوزات ومظالم محصليها والمسؤولين في الإدارات المحلية، حيث كان هؤلاء يفرضون عليهم غرامات جزافية تتجاوز حدود المعقول، خاصة ما تعلق منها بالإقطاعات الزراعية، التي كان إنتاجها يتقلب من سنة لأخرى.

إن الدولتين العثمانية والإيرانية، كانتا تجمعان الأموال والثروات من السكان بحجج مختلفة، فأحيانا باسم مساعدة الجيش في تأمين حملاته العسكرية، وأحيانا أخرى كانت القبائل الكردية تتعرض لعمليات عسكرية تأتي على موارد المنطقة من تخريب، نهب وسلب، فعلى سبيل المثال تعرضت منطقة سنجار التي يتركز فيها الأزيديون لحملة من ايالة بغداد عام 1715م، ترتب عنها سلب ونهب قرى عديدة، مع أخذ المواشي والأموال عنوة، كما كان لحملتها على إيالة بغداد مرة أخرى عام 1802م أن تم نهب جميع مواشي قبيلة (بلباس) واستيلائها على بعض قرى سنجار، وسلب جميع الأموال والمؤن و تدمير الحقول والبساتين حتى وصل الأمر بالكرد إلى تخبئة نقودهم وأغراضهم النفيسة تحت الأرض خوفا من نهبها، بل حتى أن أموال الأوقاف في كردستان العثمانية  لم تسلم من تحويلها خارج المنطقة، بعد أن حرم الأهالي من مواردها التي كانت توجه إلى الحرمين الشريفين كواردات وقف (هروتي، 2008، ص ص. 31، 33).

لم تكن أرض كردستان الخاضعة لسلطة ايران بمنأى عن عمليات الحصار، التخريب، السلب، وعمليات تدمير الحياة الاقتصادية،ولم تسلم من ذلك حتى مناطق كردستان الخاضعة للدولة العثمانية بعد أن قام جنود نادر شاه بعد حصاره للموصل عام 1743م بارتكاب، فضائع من تدمير، قتل، واعتداء على النساء، الأمر الذي أدى إلى ظهور مجاعات وهذا ما أدلى به أحد شهود هذه الأحداث بالقول:" ... كل ما وجد في القرية قد سلب أو أحرق وكذلك جرى في جميع الأماكن في الجبال فَصَعُب هذا على الناس، فحصل جراء ذلك جوع عظيم في هذه الأماكن المنكوبة..." (هروتي، 2008، ص. 19)، وقد  ترتبت عن هذا الوضع الاقتصادي المتردي موجة التهاب الأسعار والغلاء الفاحش الذي خرب كردستان.

3-4 أثرها على البناء الاجتماعي:

لم تكتف المعاهدات الموقعة بين الدولتين الايرانية والعثمانية ومعهما روسيا على ضرب النسيج الاجتماعي الكردي فقط، بل عملتا على تفكيك العشيرة الواحدة خاصة بعد توقيع معاهدة أرضروم الثانية عام 1847م، وخير مثال على ذلك ما وقع لعشيرتي (جلالي وزبلانو)، والجدول التالي يوضح أثر هذه المعاهدة علي عشيرة جلالي من خلال أسر هذه العشيرة

 

جدول يوضح أثر معاهدة أرضروم الثانية عام1847م على عشيرة جيلالي (كاميران، 2009، ص. 176)

 

الطائفة

الدولة العثمانية

ايران

روسيا

خالكاني

250

260

40

سالكاني

230

200

50

بلخيكى (بلخكانكو)

250

150

160

مصر كانكو

30

110

20

حسن سورانلو

300

10

30

قرلباشوخلي

40

150

-

بانوكي

-

80

40

 

كذلك الشأن بالنسبة لبعض القبائل الكردية الأخرى، فقد تم إلحاق قسم من عشيرة الجاف وهو (بيرة، رودى) ومعهما منطقة مهربان بإيران، رغم أنها كانت جزءا من ولاية شهرزور العثمانية، أما قبيلتا ضياء الدين وهاروني فضمتا للنفوذ العثماني. إن هذا التقسيم، جعل من بعض العشائر الحدودية تشكل مصدر إزعاج ومشاكل للدولتين.

لقد اسْتُغلَ الكرد من قبل العثمانيين لمواجهة الايرانيين، فمثلا وبعد مهاجمة السلطان سليمان القانوني لبغداد عام1534، أخذ معه معظم أغوات العشائر الكردية ووطن عشائرهم بالقرب من الحدود الإيرانية العثمانية، حيث قام الكرد ببناء الحصون والقلاع لحماية حدود أرض الدولة العثمانية من خطر الهجمات الايرانية (سايكس، 2007، ص. 15).

عمدت الدولتان إلى تحسين علاقاتهما مع العشائر الكردية من أجل استدراجها خاصة بعد فترات الضعف التي مرتا بها أو فترة حروبهما، تمثل ذلك في منح رؤسائها نفوذا وصلاحيات واسعة، لكن وبمجرد استنفاذ غرضهما منها سرعان ما تنقلبان عليها وتجردانها من كل قوتها ونفوذها، فبعد عام 1515م خاضت الدولة العثمانية حروبا على العشائر الكردية بشنها حملات واسعة ضدها أدت إلى القضاء على قوتها ومن ثم إضعافها (سايكس، 2007، ص ص. 15 - 16).

اصطبغت العلاقات بين الدولتين بالصبغة السلبية أحيانا وبالصبغة الإيجابية أحيانا أخرى، وقد انعكس ذلك على المجتمع الكردي، فسوء العلاقة بين الدولتين أفرز انعكاسات اجتماعية متفاوتة، فحالة التأزم التي طبعت علاقاتهما عدة مرات سببت حالات من القلق والشعور بعدم الاستقرار والأمن، خاصة على طرفي الحدود، ما جعل حكومتي البلدين تقدمان على فرض المزيد من الضرائب العشوائية ومصادرة أملاك الكرد، تضاف اليها الاعتداءات التي يقوم بها الجنود على الأهالي (صباغ، 1999، ص. 239)، منها سياسة الأرض المحروقة التي مارسها كل من طهماسب الأول وسليمان القانوني، بعد احتلال هذا الأخير بعضا من الأراضي الايرانية، وكذلك فعل عباس الأول الذي لجأ إلى نفس السياسة، والتي تمثلت في إحراق كل مظاهر الحياة ضمن إطار عمليات الانسحاب جراء الزحف العثماني على الأراضي الايرانية، كردم الآبار، إتلاف المحاصيل الزراعية والقضاء على الثروة الحيوانية، لحقت كل ذلك عمليات هجرات فردية من إيران نحو الدولة العثمانية أو العكس (صباغ، 1999، ص.242)، غير أن عودة العلاقات السلمية، كان لها تأثير إيجابي على الحياة الاجتماعية من ثقافة، أدب، فنون، وإدارة.

لم يقم الكرد بالدور المنوط بهم من أجل توحيد كلمتهم، فحالة التشرذم بقيت هي سيدة الموقف، فالإمارات الكردية ميزها الانقسام المجتمعي بفعل تناحرها في غياب كفاءات بإمكانها قيادتهم، صاحبها انتشار الجهل وسيطرة العقلية العشائرية، القبلية والإقليمية (حصاف، 2009، ص.153).

كان للتحولات التي طرأت على الساحة الدولية مع بداية النصف الأول من القرن التاسع عشر أثر كبير على الكرد، فلقد خدمت الحرب الروسية- الايرانية 1826-1828م والحرب الروسية-العثمانية 1827-1829م قضيتهم، حيث تزايدت مشاعر الغضب والعداء تجاه العثمانيين وكلها ساهمت في إضعاف الدولة العثمانية وانهيار حكمها في الإمارات الكردية، وأدت بالتالي إلى تحرير مناطق عديدة من كردستان من السيطرة العثمانية، غير أن الهدنة الروسية-العثمانية سمحت لهذه الأخيرة بإعادة مراقبة هذه المناطق، بعد أن نكلت بقياداتها وعاملت الكرد بقساوة فيما يسمى بالإبادة الجماعية، حتى أن أحد الرحالة الأوروبيين وصف وضعهم الاجتماعي كالتالي:" ... دموع وصراخ النساء بكاء أمهات الأطفال الرضع فجر قلوب الناس هؤلاء الأربعة آلاف كردي المحكوم عليهم بالعذاب المريع يذكر بعذاب المحكوم عليهم بجحيم دانتوفسكي..." (حصاف، 2009، ص.155؛ Peshawa, 2012, p. 24.).

أثر هذا الصراع بين القوتين على الجانب الصحي، لذا انتشرت الأوبئة والأمراض الفتاكة كالكوليرا والطاعون، بسبب انفتاح منطقة كردستان على الأقاليم والبلدان الأخرى التابعة للعثمانيين والإيرانيين، فقد اجتاحت موجة الطاعون كردستان الجنوبية أعوام 1758م 1777م و 1799م، والذي كان مصدره مدينة إسطنبول، كما أصابها وباء الكوليرا بعد ظهوره في الهند ووصل إلى البصرة، ثم انتقل إلى منطقة كردستان العراق، كما وصل الطاعون من إيران وأصابها عام 1830 (هروتي،2008، ص.20)، وهذا ما ذكره المقيم البريطاني ريج حول مرض الملاريا الذي أصاب سكان السليمانية

بقوله: "...هذه الحمى تظهر في الربيع غالبا ومن يصاب بها لا يتعافى إلا نادرًا..."، كما وصف منطقة شهرزور بما يلي: "...بأن منطقة شهرزور والتي يزرع فيها الرز بكثرة مناخها حار وغير صحي، ومليئة بالذباب والبراغيث..." (هروتي، 2008، ص.22).

إن تردي الوضع الصحي، كان مرده كذلك انعدام الوعي الصحي لدى المجتمع الكردي، بسبب أسلوب الحياة وظروف معيشة الأفراد، وعدم الأخذ بالوقاية من الأمراض، وهذا ما أكده أحد المسؤولين الانجليز عندما مر بقرية كردية قرب مدينة موش عام 1838م، حيث لاحظ العديد من الأطفال الذين "...غالبيتهم كانوا إما عراة تماما أو نصف عراة بملابس مرقعة ورثة..." (هروتي، 2008، ص.25)، وفي هذا المقام يجب أن نذكر بمسؤولية الدولتان عن هذه الأوضاع التي آل إليها حالهم، بعد تنصلهما من توفير سبل الرعاية الصحية للمواطنين الكرد، بسبب تخلفهما وعدم اكتراث المسؤولين في كلا البلدين بتقديم الخدمات الصحية اللازمة للسكان، كما أدت هذه الحالات إلى هلاك آلاف الأشخاص، ما أثر سلبا على نسبة نمو السكان.

تمخض عن انضواء الكرد ضمن هذا الإطار الجغرافي الذي جمع إيران والعثمانيين تفاعل حضاري كان لهم منه نصيب، حيث تفاعلوا مع مختلف الثقافات المكونة لهذه المنطقة، لذا فإن مكونات هذه المجتمعات ضمت الترك، العرب، الكرد، الأرمن، الكرجستانيين والبلقانيين، وكلها تحت لواء الأسرة الحاكمة في إسطنبول، بينما ضمت مكونات المجتمع الإيراني الترك، العرب، الفرس، الكرد، الأرمن، البلوش، والكرجستانيون.

لقد مس هذا التفاعل اللغة والفكر، وبسبب هيمنة اللغة والثقافة الفارسية على اللغة والثقافة العثمانية بما تحمله من قوة تأثير عليها، جعلها تترك بصمتها على الثقافة الكردية لما تحتويه من طروحات أخلاقية، كانت قد تبلورت عبر العصور، وحيث تعدى تأثيرها قضية الشكل إلى المضمون. إن نتائج هذا التفاعل الحضاري كانت تهذيب الأخلاق العامة وتربية الإحساس الذوقي، وهذا بدوره أدى إلى ترقية الناس الذين تخلت مجتمعاتهم القبلية عن بعض طباعها الجافة، كما أدى إلى تمايز هذه المجتمعات بعد أن أصبحت لها شخصيتها الخاصة بها-مجتمع الشرق الأوسط - عما هو موجود في المجتمعات الأوروبية (صباغ، 2009، ص ص. 267- 287).

تركت مختلف مراحل الصراع والمعاهدات المنبثقة عنه آثارا متعدية شملت مختلف  الميادين، فهي لم تستطع وضع حد لمسألة ضبط الحدود، التي لم تكن ثابتة بشكل مطلق، بل كانت تتغير حسب طبيعة العلاقة بين الدولتين، تنحصر تارة وتتمدد تارة أخرى بآلاف الكيلومترات، بسبب عدم احترام أحد الطرفين لما ورد في المعاهدات التي أفرغت من محتواها، ورغم ذلك فإنها استكملت ضم المجال الجغرافي لكردستان وتقسيمها بين الدولتين.

لقد فُرِضَتْ العزلة السياسية على كردستان، كونها منطقة لتمركز الصراع العثماني-الإيراني من الناحية الإستراتيجية، بسبب تحكمها وتوسطها لطرق تجارة الشرق في وقت السلم، وممرا للجيوش وقت الحروب والأزمات (بيات، 2007، ص.191)، كما عانت من جور حكام الدولتين، الذي أفرز دمارا، نهبا، قتلا، إذلالاً وإفقارًا. إن تجاوزات الولاة وعمليات السلب والنهب وقتل الأنفس بغير وجه حق، وبث الفتن بين أمراء الإمارات الكردية، بعد استغلال الانشقاقات والمنافسة بين العائلات الكردية، وتحمل سكان كردستان نفقات قوات البلدين بحجة حمايتها والدفاع عنها ومنع الثورات والفوضى، رافقتها الاستعانة بالكتلة البشرية الكردية المؤهلة للقتال في أوروبا وآسيا ودفعها إلى الاشتراك في الحروب (بيات، 2007، ص.191)، التي أنهكت قوتي الدولتان بعد صراع مرير وبعد فوات الأوان، في الوقت الذي خطت فيه أوروبا خطواتها نحو التقدم، وبالتالي انحدرتا إلى هاوية الضعف والخور (صباغ، 2009، ص. 196).

كسبت الدولتان موارد هامة للخزينة بفضل الضرائب الفاحشة على الرعايا الكرد، تبعها  ارتفاع أسعار المواد الزراعية خاصة القمح، انتشار الفساد الإداري في جهاز حكم الدولتان الذي كانت من بين مظاهره الرشوة والمحسوبية، واعتراض القوافل التجارية بسبب انتشار قطاع الطرق، مما أدى إلى انحصار النشاط التجاري في آخر عهدهما، مع حرمان كردستان من خيراتها الاقتصادية (بيات، 2007، ص. 246).

عملت الدولتان على تدمير النسيج الاجتماعي لكردستان، فحولت الكثير من أسرها إلى  عشائر بفعل سياساتهما، كما تسببت في اندلاع المواجهات والصدامات بين هذه العشائر، في الوقت الذي عملتا فيه على تقوية النظام العشائري تارة وتارة أخرى إضعافه، حسب مصالحهما، كما تدهورت الحالة الصحية لسكان المنطقة بعد انتشار الأوبئة والأمراض دون تكفل بوضعيتهم الصحية. إن تردي الحالة الاجتماعية دفع بالعديد من الكرد إلى القيام بعمليات الهجرة أملا فى تحسين ظروفهم المعيشية.

استنتاج

يمكن القول بأن ما ترتب عن معركة جالديران عام 1514م من آثار، هو بمثابة بداية لمواجهة طويلة الأمد بين الدولتين فاقت ثلاثة قرون ، كانت ساحتها الرئيسة كردستان ، تناوبت جراءها القوات الإيرانية والعثمانية على إخضاع أجزاء منها لنفوذهما.

هذا الصراع وقفت وراءه أسباب عديدة ، منها ما ارتبط بالخلاف المذهبي ، ومنها ما ارتبط بما هو سياسي ، إلا أن السبب الرئيس هو جغرافية كردستان من خلال موقعها الاستراتيجي الهام، فهي تتوسط الطريق الرابط بين البحرين الأبيض المتوسط والأسود، أهميتها الاقتصادية، التجارية، غناها بالموارد الزراعية، مكانتها العسكرية كونها منطقة حصينة فضلا على أنها خزان بشري مؤهل لخوض الحروب.

كان واقع كردستان في تلك الحقبة يخضع لحالات (التجاذب) وتوازن القوة بين إيران والدولة العثمانية قوة وضعفا هذا من جهة ومن جهة أخرى كان يعنى كذلك حالات من الاستقرار والسلام.

رغم أن الكرد وقفوا إلى جانب الدولتين وضحوا بأرواحهم وأموالهم من أجل حمايتهما بعد أن دفعوا ثمنا باهضا جراء تلك الحروب التي كانت أراضيهم مسرحا لها إلا أن الدولتان لم تقدرا ذلك.

عُدَتْ المعاهدات المبرمة بين إيران والدولة العثمانية، خاصة معاهدة أرضروم الثانية عام 1847م ، بداية المؤامرة للقضاء على الإمارات الكردية الواحدة تلو الأخرى وبشكل كامل، من خلال قطع الطريق أمام حكامها الذين سعوا إلى تكوين دولتهم المستقلة على حدود كردستان الكبرى.

إن وضع كردستان في ظل حكم الدولتين ، نجم عنه إهمالها وتهميشها لقرون ، جراء استغلال قدراتها الطبيعية ، البشرية ، عدم النهوض بها، مما أثر على تنميتها، الأمر الذي انجر عنه تدهور أوضاع المجتمع الكردي في شتى المجالات ، فقد سيطرت العناصر الأجنبية على إدارتها العامة بهدف ربطها بالسلطة المركزية لكلا البلدين ، إثقال كاهل السكان بالضرائب الفاحشة ، رافقه سوء الأوضاع المعيشية ، بعد أن عمها الفقر ، البؤس ، وتدني الخدمات الصحية ، وهذا ما دفع ببعض القيادات المحلية إلى محاولة إصلاح أوضاع المجتمع الكردي.

نتيجة لما تزخر به كردستان من إمكانيات وثروات وموارد أضحت بلا شك حديقة خلفية للقوتين المتصارعتين. إن مقولة: «...إن جمالنا يجلب إلينا في كثير من الأحيان المتاعب...» ، لخصت طبيعة الصراع على كردستان والذي أفضى في النهاية إلى منع استقلالها، وبالتالي تقسيمها عمليا بين الدولتين. 

قائمة المصادر والمراجع

- اسكندر سعد بشير،(2007)، من التخطيط إلى التجزئة سياسة بريطانيا العظمى تجاه مستقبل كردستان 1915-1923، مطبعة شقان، السليمانية.

- بيات فاضل،(2007)، الدولة العثمانية في المجال العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.

- دلير اسماعيل، شاويس حقي، (د.ت)، امارة بابان في النصف الأول من القرن18 دراسة في علاقاتها السياسية مع السلطات العثمانية، منشورات جامعة صلاح الدين، أربيل.

- الدهشان نائل،(2009)، القضية الكردية، معهد فلسطين للدراسات الاستراتيجية، غزة.

- هريدى محمد عبد اللطيف،(1987)، الحروب العثمانية الفارسية وأثرها على انحسار المد الاسلامي عن أوروبا، دار الصحوة للنشر والتوزيع، القاهرة.

- هروتى  سعدي عثمان: (2008)، كوردستان والامبراطورية العثمانية، مؤسسة موكرياني للبحوث والنشر، مطبعة خاني دهوك.

- زكي بك محمد أمين: (2005)، خلاصة تاريخ الكرد وكردستان من أقدم العصور التاريخية حتى الآن، القسم الأول،الطبعة الثانية،ترجمة وتعليق: محمد على عوني، سلسلة حكم وأثر، بغداد،.

- الزبيدى كريم حمزة مطر، (د.ت)، تاريخ ايران الحديث، (د،ن)، (د،ب).

- مراد خليل علي، البوتاني عبد الفتاح علي،(2015)، صفحات من تاريخ الكرد وكوردستان الحديث في الوثائق العثمانية (1840 1915 م)، مطبعة الحاج هاشم، أربيل.

- مرعي فرست،(2006)، "الدور التاريخي للكرد" الكرد دروب التاريخ الوعرة، تحرير: لقاء مكي، شبكة الجزيرة للبحوث والدراسات، الدوحة، يونيو، حزيران.

-حصاف اسماعيل محمد: (2009)، كوردستان والمسألة الكردية، مطبعة خاني دهوك.

-طقوش محمد سهيل،(2009)، تاريخ الدولة الصفوية في ايران 1501- 1736، دار النفائس، بيروت.

-كاميران عبد الصمد أحمد الدوسكى، (2006)، كردستان في العهد العثماني في النصف الأول من القرن التاسع عشر، الدار العربية للموسوعات، بيروت.

- مشعل مفلح ظاهر، الطعمة باسم حطاب، (2008)، «العلاقات الصفوية العثمانية 1587-1624م دراسة تحليلية»، مجلة آداب البصرة، العدد: 45 ، جامعة البصرة.

- نايف عيد السهيل:(2009)، «العلاقات السياسية بين العثمانيين والصفويين منذ قيام الدولة الصفوية حتى معركة جالديران(907هـ-920هـ) (1002م-1514م)»، حوليات مركز البحوث والدراسات التاريخية، كلية الآداب، جامعة القاهرة.

- النجار جميل موسى، (2016)، العلاقات العثمانية الايرانية، دار مكتبة عدنان للطباعة والنشر، بغداد.

- سايكس مارك،(2007)، القبائل الكردية في الإمبراطورية العثمانية، ترجمة: خليل علي مراد، تقديم ومراجعة وتعليق: عبد الفتاح علي بوتاني، دار الزمان للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق.

- عبد الله ايناس سعدى،(2014)، تاريخ العراق الحديث 1258-1918، مكتبة عدنان للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد.

- عبد الله نجاة،(2020)، الامبراطوريات: الحدود والقبائل الكردية كردستان ونزاع الحدود التركي- الايراني 1843-1936، ترجمة: سعادة محمد خضر، تقديم: ابراهيم محمود، المديرية العامة للمكتبات العامة، طهران.

- العوفي محمد عبد الرزاق: (2008)، الصراع الصفوي العثماني وتأثيراته على المشرق العربي 1514-1555، دار الكتب الوطنية، بنغازى.

- العلياوي عبد الله محمد على،(2006)، "جذور المشكلة الكردية" الكرد دروب التاريخ الوعرة، تحرير لقاء مكي، شبكة الجزيرة للبحوث والدراسات، الدوحة.

- صباغ عباس اسماعيل،(1999)، تاريخ العلاقات العثمانية الايرانية الحرب والسلام بين العثمانيين والصفويين، دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت.

-شوقي أبو خليل،(2005)، تشالديران سليم الأول العثماني واسماعيل الصفوي، دار الفكر، دمشق.

- الضابط شاكر صابر،(1966)، العلاقات الدولية ومعاهدات الحدود بين العراق وايران، نشر وطبع دار البصيري،بغداد.

- غريب أدمون،(1973)، الحركة القومية الكردية، دار النهار للنشر، بيروت.

- Center for applied linguistics, (1981), The Kurds, ERIC, washington , D,C.

- Jalil Hawkar Moheddin,(2017), The British Administration of south Kurdistan and local responses, 1918 – 1932, Thesis submitted for the degree of doctor of philosophy, school of history, politics and international relations, University of Leicester.

- Peshawa Abdulkhaliq Muhammed, (2012) U.S, perspectives on Kurdish independence from Iraq 1972  - 2011, A Thesis submitted in fulfillment of the Requirements for the degree of doctor of philosophy in politics and international relations, research institute for law, politics and justice, Keele University.

- Sabri Ates , (2013), the Ottoman –Iranian Border lands making a Boundary 1834-1914,cambridge university press, printed in the U. S. A, first published.


 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

The reality of kurdistan under the iranian-ottoman treaties (1514-1847)

 

Abstract:

The Battle of Chaldiran, which broke out between the Safavid and Ottoman states in the year 1514 AD, marked the opening A long historical period of conflict between them, which extended for more than three centuries, during which the country of Kurdistan was its focus, as it constituted a natural barrier separating the two powers.The conflict developed further due to the ambitions of the new Safavid state, which aimed to extend its influence outside its regional borders at the expense of Kurdistan.This conflict prompted the two countries to resolve their differences through negotiations and dialogue, after depleting their capacities for centuries, with the change in the balance of power in favor of other countries, especially Britain and Russia.Treaty of Amasya 1555 AD - Treaty of Farhad Pasha (Constantinople) 1590 AD - Treaty of Nasuh Pasha 1612 AD - Treaty of Sarau 1618 AD - Treaty of Zahab (Palace of Shirin) 1639 AD - First Treaty of Erzurum 1823 AD and the Second Treaty of Erzurum 1847 AD, which affected one way or another with another on Kurdistan geographically, politically, economically and socially, and this after it was fragmented between them into areas of influence. We will try to study this subject, which has a historical-political formula, according to a major problem Regarding the position of Kurdistan in the Iranian-Ottoman treaties, and its impact on its geographical, political, economic and social structure, based on this problem, we will rely in our study on the historical approach with its descriptive and analytical tools, focusing on analyzing the content of the treaties. We will address the research topic according to the following elements: 1- The Iranian-Ottoman conflict after 1514 AD and its renewal during the reign of Tahmasp I (1524 AD - 1576 AD). 2- The Iranian-Ottoman treaties (1555 AD - 1847 AD). 3- The impact of treaties on the geographical, political, economic and social structure of Kurdistan.

Keywords: Safavids, Ottomans, Kurdistan, treaties.

 



* الباحث المسؤل.

This is an open access under a CC BY-NC-SA 4.0 license (https://creativecommons.org/licenses/by-nc-sa/4.0/)